الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 369 ] ثم بين سبحانه أنه مبدع للسماوات والأرض، والإبداع خلق الشيء على غير مثال، بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما.

والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته، مع استقلال الخالق به وعدم شريك له، والتولد لا يكون إلا [بجزء من المولد] بدون مشيئته وقدرته، ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه.

وقال تعالى: أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم [سورة الأنعام: 101]، فبين بطلان كون الولد له من غير صاحبة لقوله: ولم تكن له صاحبة [سورة الأنعام: 101]، فإن التولد لا يكون إلا من أصلين، وليس في الموجودات ما يكون وحده مولدا لشيء، بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين، وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج له.

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين فساد قول المتفلسفة الذين يقولون: لا يصدر عن الواحد إلا واحد، حتى قالوا: إن الواجب لم يصدر عنه أولا إلا عقل، ثم بتوسط العقل صدر عقل ونفس وفلك. [ ص: 370 ]

وهذا الكلام، وإن كان فساده معلوما من وجوه كثيرة، كما قد بسط في موضعه، فالمقصود هنا أنه ليس في الموجودات الواحد البسيط الذي يصفونه، وهو المجرد عن جميع صفات الإثبات الذي لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات، بل هذا الواحد لا حقيقة له.

وأيضا فإنه لا يعرف في الوجود واحد صدر عنه بمجرده شيء، وما يمثلون به من أن النار لا يصدر عنها إلا الإحراق والتسخين، والماء لا يصدر عنه إلا التبريد، والشمس يصدر عنها الشعاع، ونحو ذلك كلها حجج عليهم، فإن هذه الآثار لم تصدر عن مجرد هذه الأجسام وطبائعها، بل لا تكون السخونة والإحراق إلا عن شيئين: أحدهما: النار أو الشعاع أو الحركة، فإن هذه الثلاثة من أسباب السخونة. والثاني: محل قابل لذلك، كبدن الحيوان والنبات، ونحو ذلك، وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار.

وكذلك الشعاع لا بد له من محل يقبل الانعكاس عليه، وإلا فإذا لم يكن هناك جسم قابل له لم يحدث الشعاع.

وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن الأول الواجب الوجود، الذي [ ص: 371 ] يسمونه العلة، هو ذات بسيطة، ليس له نعت من النعوت، وأنه صدر عنه عقل هو واحد بسيط أيضا لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم صدر عنه عقل ونفس وفلك، وليس هذا نظير ما يمثلون به من الآحاد، فإن آثارها كانت بمشاركة من القوابل الموجودة، وهنا [كل] ما سوى الأول فهو معلول له، ليس هناك موجود غيره ليشترك هو وذلك الموجود في ذلك، كاشتراك الشمس والمطارح القابلة، واشتراك النار والموارد القابلة.

فقوله تعالى: أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة [سورة الأنعام: 101]، بيان أن التولد لا يكون إلا بين اثنين وهو سبحانه لا صاحب له فكيف يكون له ولد؟.

وهذا القدر لما كان مستقرا في فطر الناس كان عامة ما يسمونه تولدا ونتاجا إنما يكون عن أصلين، فالأمور التي تسمى متولدات - كالشبع والري ونحو ذلك - إنما حدثت عن أصلين: فعل العبد، والأسباب الأخر المعاونة له.

وكذلك النظار يقولون: النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من [ ص: 372 ] الحيوان، لأن هذين أصلان في التوليد، وهذين أصلان في التولد.

ثم قال تعالى: وخلق كل شيء [سورة الأنعام: 101]، وذلك بيان لأنه إذا كان خالقا لجميع الأشياء، فكيف يكون فيها ما هو متولد عنه؟ والجمع بين الخلق والتوليد ممتنع، كما يمتنع الجمع بين التولد والتعبد.

كما قال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا [سورة مريم: 88 - 94].

وقال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [سورة الأنبياء: 26]، حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه، فلا يكون عبده من هذه الآية، لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد. [ ص: 373 ]

وهذا الحكم معلوم بأدلة أخرى، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط، فقال: لعل صاحبها يلم بها؟ قالوا: أجل قال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستعبده وهو لا يحل له؟

فبين صلى الله عليه وسلم أنه إذا وطئ تلك الحبلى وسقى ماؤه زرع غيره، فإنه بتلك الزيادة التي تحصل منه في الجنين، يصير شريكا له في التولد، وحينئذ فلا يحل له أن يستعبده، ولا أن يجعله موروثا عنه، كما يورث ماله، فإذا كان هذا بمشاركته في التولد مع أن الولد قد انعقد من ماء غيره، فكيف بالولد الذي انعقد منه؟

وكذلك قوله تعالى: وهو بكل شيء عليم [سورة الأنعام: 101] كما، قال في الآية الأخرى: لقد أحصاهم وعدهم عدا [سورة مريم: 94]، فإن إحاطة العلم والعد بهم فيه بيان أنه لا يكون منهم إلا ما يعلمه، لا ينفردون عنه بشيء، كما ينفرد الولد عن والده، والشريك عن شريكه. [ ص: 374 ]

وقوله في الآية الأخرى: بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [سورة البقرة: 117]، بيان لكونه سبحانه يخلق الأشياء بكلمته، وأنها منقادة له، فإذا قال له: كن، كانت. وهذا مناف للتوليد، بل خلق المسيح عليه السلام بكلمة (كن) .

وقد علم في الشاهد أن من يدبر الأشياء بمجرد كلمته ليس كالذي يحتاج إلى أن تولد منه الأشياء، فكيف يوصف بالتولد وهو سبحانه في جميع ما يقضيه إنما يقول له: كن فيكون؟

التالي السابق


الخدمات العلمية