الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 372 ] قاعدة

في الصبر والشكر [ ص: 374 ] .. ويسمى الليل «كافرا»، كما قال ثعلبة بن صعير:


حتى إذا ألقت يدا في كافر

كما يسمى الزارع «كافرا»؛ لأنه يغطي الزرع بالتراب.

فكان الأمر بالإخراج من الظلمات إلى النور أمرا بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.

قال الله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة إلى قوله: يهدي الله لنوره من يشاء ، ثم قال: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة إلى قوله: أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج إلى قوله: ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور [النور: 35 – 40]. [ ص: 376 ]

فذكر سبحانه مثلين:

* مثل الكفر المركب بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء وليس كذلك. فهذا مثل الاعتقاد الفاسد.

* والآخر الذي في الظلمات لا يرى شيئا. وهذا مثل الجهل البسيط، كالحيرة والشك والريب الذي لا يعتقد صاحبها شيئا.

فالأول حال البدعة والدين الفاسد، كدين أهل الكتاب بعد التبديل والنسخ.

والثاني حال الزنادقة والمعطلة والمتفلسفة وأمثالهم ممن لم يحصل له علم يعتقده، ومثل كثير من أهل الكلام والنظر الذين لم يحصل لهم إلا الحيرة والشك.

قال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [الشورى: 52].

والكتاب والإيمان نور، وقد سمى الله ذلك نورا في قوله: واتبعوا النور الذي أنزل معه [الأعراف: 157]، وقوله: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين الآية [المائدة: 15]، وقوله: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [النساء: 174]، [ ص: 377 ] وقوله: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم [التوبة: 32].

وقال تعالى في حق المؤمن والكافر: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات [الأنعام: 122].

وقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به [الحديد: 28]، وقال: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور الآية [البقرة: 257]، وقال تعالى: هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور [الحديد: 9].

وذكر تعالى في سورة الحديد نور النبي والذين آمنوا معه، وأن الله يتم لهم نورهم حين يطفى نور المنافقين.

وذكر أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، فيها، وفي سورة التحريم.

وذكر أن المنافقين انطفى نورهم في الدنيا؛ فلهذا انطفى نورهم في الآخرة؛ فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى في حق المنافقين: [ ص: 378 ] مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية [البقرة: 17].

وذكر لهم مثلا آخر بالمطر الذي فيه ظلمات ورعد وبرق؛ لأن الله يضرب مثل الإيمان والقرآن بالنار تارة، وبالماء أخرى؛ لأن الماء فيه الحياة والرطوبة، والنار فيها الإشراق والحرارة، وبهذا وهذا يحصل الإيمان في القلب، كما أنه بذلك ينبت الزرع في الأرض. والقلب مشبه بالأرض، قال الله تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه الآية [الأنعام: 122]، ولهذا ذكر المثلين في قوله: أنزل من السماء ماء الآية [الرعد: 17].

فهو سبحانه ذكر أنه أنزل الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأمر موسى بإخراج قومه من الظلمات إلى النور، وأن يذكرهم بأيام الله، وقال: إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور [إبراهيم: 5]، فإن أيام الله الأزمنة التي أحدث فيها ما أحدث من الآيات، ولهذا قال: إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون الآية [إبراهيم: 5 – 6].

والبلاء أن يبلو الرب عز وجل عبده بالسراء والضراء، ليختبره ويمتحنه، كما قال تعالى: وبلوناهم بالحسنات والسيئات [الأعراف: 168]، وقال: [ ص: 379 ]

ونبلوكم بالشر والخير فتنة [الأنبياء: 35].

فهذا البلاء العظيم تضمن بلواهم بالضراء أولا، وبالسراء ثانيا، وذلك يستوجب الصبر والشكر، كما قال: إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .

وقد قال سليمان: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر الآية [النمل: 40]، هذا بعد أن ذكر قوله: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه الآية [النمل: 19]، فلما رأى عرش بلقيس مستقرا عنده قال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر الآية.

وقال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن [الفجر: 15 – 16]، فأخبر أن ذلك ليس إكراما ولا إهانة، وإنما ابتلاه ليعلم المؤمن الصبور والشكور من غيره.

كما قال تعالى: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [محمد: 31]، وقال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [الملك: 2].

وذكر تعالى قول موسى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم: 7]، [ ص: 380 ] فبين أن الكفر ضد الشكر، وأن من لم يشكر نعمته فقد كفر؛ فهو من أهل الظلمات، والشاكر من أهل النور، وكذلك قال سليمان: ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم [النمل: 40].

وقال تعالى: وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم: 34]، فذكر أن الإنسان ظلوم كفار، فلا يشكر نعمه التي لا تحصى.

فبين أن الشكر من النور والإيمان، وضده من الظلمة والكفر، وذلك لأن الشكر أصله هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا لها فهو في ظلمة الجهل، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها كان كذلك، ومن عرف النعمة والمنعم بها لكن جحدها كما يجحد المتكبر نعمة المنعم عليه فقد كفرها، وإن أقر بها واعترف بها فهو أول الشكر.

فلا بد في ذلك من علم القلب وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له، كما في الحديث الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي». [ ص: 381 ]

فإن قوله: «أبوء لك بنعمتك علي» يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بالعبودية؛ لأن المباءة هي ما يبوء إليها الشخص، أي يرجع إليها رجوع مستقر؛ فإن المباءة هي المستقر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، أي ليتخذ مقعده مباءة، فيلزمه ويستقر فيه، ليس بمنزلة المنزل الذي ينزل به ويرحل عنه.

فالعبد يبوء إلى الله عز وجل بنعمه عليه، ويبوء بذنبه، فرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه، ليس رجوع من أقبل إليه ثم أعرض عنه، بل رجوع من لا يعرض عن ربه، بل لا يزال مقبلا عليه؛ إذ كان لا بد له منه، فهو معبوده، وهو مستعانه، لا صلاح له إلا بعبادته، وإن لم يكن معبوده هلك وفسد، ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته له، فلا مندوحة له عن هذا وهذا البتة.

وفي الحديث: «مثل المؤمن مثل الفرس في آخيته، يجول ثم يرجع إلى آخيته، كذلك المؤمن يجول ثم يرجع إلى الإيمان».

فقوله: «أبوء» يتضمن أني وإن جلت كما يجول الفرس -إما بالذنب، وإما بالتقصير في الشكر- فإني راجع منيب أواب، أبوء لك بنعمتك علي [ ص: 382 ] وأبوء بذنبي.

وذكر النعمة والذنب لأن العبد دائما بين نعمة من ربه، وذنب من نفسه، كما في الحكاية المعروفة عن الرجل الذي كان في زمن الحسن البصري لما ذكر للحسن أمره، فسأله الحسن: فقال له: إني أجدني بين نعمة وذنب، فأريد أن أحدث للنعمة شكرا، وللذنب استغفارا، فقال الحسن: أنت عندي أفقه من الحسن.

وذلك أن الخير كله من الله، كما قال: وما بكم من نعمة فمن الله [النحل: 53]، وقال تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم إلى قوله: فضلا من الله ونعمة [الحجرات: 7 – 8]، وقال: يمنون عليك أن أسلموا الآية [الحجرات: 17].

وقال تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [الفاتحة: 6 – 7]، والذين أنعم عليهم هم المذكورون في قوله: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الآية: [النساء: 69].

فالخير كله، والنعم كلها -من نعم الدنيا، ونعم الدين من الإيمان والعمل الصالح- وثواب ذلك كله من نعم الله ومنه على عبده. [ ص: 383 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية