الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكذلك سولت لي نفسي ) أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي رسولا وإربا حتى فعلته ، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي ، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ، وجعل له أن يقول مدة حياته ( لا مساس ) أي لا مماسة ولا إذابة . وقال الزمخشري : عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا [ ص: 275 ] كليا ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا ، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة حم الماس والممسوس فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح ( لا مساس ) ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم . انتهى . وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية ، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى ، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحدا يقول ( لا مساس ) أي لا تمسني ولا أمسك . وقيل : ابتلي بعذاب قيل له ( لا مساس ) بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله :


فأصبح ذلك كالسامري إذ قال موسى له لا مساسا



ومنه قول رؤبة :

حتى تقول الأزد لا مساسا

وقيل : أراد موسى قتله فمنعه الله من قتله لأنه كان شيخا . قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر الرسول عليه السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله عليهم . وقرأ الجمهور ( لا مساس ) بفتح السين والميم المكسورة و ( مساس ) مصدر ماس كقتال من قاتل ، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس ، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك .

وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين . فقال صاحب اللوامح : هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى انزل وانظر ، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها إلا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك ، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس ، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني . انتهى . وظاهر هذا أن مساس اسم فعل . وقال الزمخشري ( لا مساس ) بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء :


إن وردن الماء فلا عباب     وإن فقدنه فلا إباب



وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب . وقال ابن عطية ( لا مساس ) هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه ، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه ، والشبه صحيح من حيث هي معدولات ، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر . ومن هذا قول الشاعر :


تميم كرهط السامري وقوله     ألا لا يريد السامري مساس



انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية