الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الثاني : حالتهم بالنسبة للسحر

          فإن قلت : فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتابي بقراءتي عليه ، قال : نا حاتم بن محمد ، نا أبو الحسن علي بن خلف ، نا محمد بن أحمد ، نا محمد بن يوسف ، نا البخاري ، نا عبيد بن إسماعيل ، نا أبو أسامة ، عن هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ، وما فعله .

          وفي رواية أخرى : حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ، ولا يأتيهن
          . . الحديث .

          وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور فكيف حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ؟ ، وكيف جاز عليه ، وهو [ ص: 517 ] معصوم ؟ .

          فاعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، وقد طعنت فيه الملحدة ، وتدرعت به لسخف عقولها ، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع ، وقد نزه الله الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبسا ، وإنما السحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ، ولا يقدح في نبوته .

          وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ، ولا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته ، أو يقدح في صدقه ، لقيام الدليل ، والإجماع على عصمته من هذا وإنما هذا ، فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ، ولا فضل من أجلها ، وهو فيها للآفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه ، كما كان .

          وأيضا فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله : حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله ، ولا يأتيهن .

          وقد قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر ، ولم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ، ولم يفعله ، وإنما كانت خواطر وتخيلات .

          وقد قيل : إن المراد بالحديث أنه : كان يتخيل الشيء أنه فعله ، وما فعله ، لكنه تخييل لا يعتقد صحته ، فتكون اعتقاداته كلها على السداد ، وأقواله على الصحة .

          هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحناه من معنى كلامهم ، وزدناه بيانا من تلويحاتهم . وكل وجه منها مقنع ، لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث ، وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وقال فيه عنهما : سحر يهود بني زريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينكر بصره ، ثم دله الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر .

          وروي نحوه عن الواقدي ، وعن عبد الرحمن بن كعب ، وعمر بن الحكم .

          وذكر عن عطاء الخراساني ، عن يحيى بن يعمر : [ ص: 518 ] حبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة سنة ، فبينا هو نائم أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه . . . الحديث .

          قال عبد الرزاق : حبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة خاصة سنة حتى أنكر بصره .

          وروى محمد بن سعد ، عن ابن عباس : مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحبس عن النساء والطعام والشراب ، فهبط عليه ملكان . . . وذكر القصة .

          فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره ، وجوارحه ، لا على قلبه ، واعتقاده ، وعقله ، وأنه إنما أثر في بصره ، وحبسه عن وطء نسائه وطعامه ، وأضعف جسمه ، وأمرضه ، ويكون معنى قوله : يخيل إليه أنه يأتي أهله ، ولا يأتيهن ، أي يظهر له من نشاطه ، ومتقدم عادته القدرة على النساء ، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر ، فلم يقدر على إتيانهن ، كما يعتري من أخذ ، واعترض .

          ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله : وهذا أشد ما يكون من السحر . ويكون قول عائشة في الرواية الأخرى : إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ، وما فعله ، من باب ما اختل من بصره ، كما ذكر في الحديث ، فيظن أنه رأى شخصا من بعض أزواجه ، أو شاهد فعلا من غيره ، ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره ، وضعف نظره ، لا لشيء طرأ عليه في ميزه .

          وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له ، وتأثيره فيه ما يدخل لبسا ، ولا يجد به الملحد المعترض أنسا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية