الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قال أبو بكر : روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك أن اليسر الإفطار في السفر والعسر الصوم فيه وفي المرض ، ويحتمل ما ذكر من الإفطار في السفر لمن يجهده الصوم ويضره ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجل الذي ظلل عليه في [ ص: 277 ] السفر وهو صائم : ليس من البر الصيام في السفر ، فأفادت الآية أن الله يريد منكم من الصوم ما تيسر لا ما تعسر وشق ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد صام في السفر وأباح الصوم فيه لمن لا يضره .

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متبعا لأمر الله عاملا بما يريده منه ، فدل ذلك على أن قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر غير ناف لجواز الصوم في السفر بل هو دال على أنه إن كان يضر فالله سبحانه غير مريد منه ذلك وأنه مكروه له .

ويدل على أن من صام في السفر أجزأه ولا قضاء عليه ؛ لأن في إيجاب القضاء إثبات العسر ؛ ولأن لفظ اليسر يقتضي التخيير كما روي عن ابن عباس ، وإذا كان مخيرا في فعل الصوم وتركه فلا قضاء عليه ، ويدل أيضا على أن المريض والحامل والمرضع وكل من خشي ضرر الصوم على نفسه أو على الصبي ، فعليه أن يفطر ؛ لأن في احتمال ضرر الصوم ومشقته ضربا من العسر ، وقد نفى الله تعالى عن نفسه إرادة العسر بنا ؛ وهو نظير ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما .

وهذه الآية أصل في أن كل ما يضر بالإنسان ويجهده ويجلب له مرضا أو يزيد في مرضه ، أنه غير مكلف به ؛ لأن ذلك خلاف اليسر ، نحو من يقدر على المشي إلى الحج ولا يجد زادا وراحلة فقد دلت الآية أنه غير مكلف به على هذا الوجه لمخالفته اليسر .

وهو دال أيضا على أن من فرط في قضاء رمضان إلى القابل فلا فدية عليه ، لما فيه من إثبات العسر ونفي اليسر ، ويدل على أن سائر الفروض والنوافل إنما أمر بفعلها أو أبيحت له على شريطة نفي العسر والمشقة الشديدة ، ويدل أيضا على أن له أن يقضي رمضان متفرقا ؛ لأنه ذكر ذلك عقيب قوله : فعدة من أيام أخر ودلالة ذلك عليه من وجهين :

أحدهما : أن قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قد اقتضى تخيير العبد في القضاء .

والثاني : أن قضاءه متفرقا أولى بمعنى اليسر وأبعد من العسر ، وهو ينفي أيضا إيجاب التتابع لما فيه من العسر ، ويدل على بطلان قول من أوجب القضاء على الفور ، ومنعه التأخير ؛ لأنه ينفي معنى اليسر ويثبت العسر ، وقد دلت الآية على بطلان قول أهل الجبر والقائلين بأن الله يكلف عباده ما لا يطيقون ؛ لأن تكليف العبد ما لا يطيق وما ليس معه القدرة عليه من أعسر العسر ، وقد نفى الله تعالى عن نفسه إرادة العسر لعباده .

ويدل على بطلان قولهم من وجه آخر : وهو أنه من حمل نفسه على المشقة الشديدة التي يلحقه ضرر عظيم في الصوم فاعل لما لم يرده الله منه بقضية الآية ، وأهل الجبر يزعمون أن كل ما فعله العبد من [ ص: 278 ] معصية أو كفر فإن الله مريده منه ، وقد نفى الله بهذا ما نسبوه إليه من إرادة المعاصي ، ويدل أيضا من وجه آخر على بطلان قولهم ، وهو أن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه يريد بهم اليسر ليحمدوه ويشكروه ، وأنه لم يرد منهم أن يكفروا ليستحقوا عقابه ؛ لأن مريد ذلك غير مريد لليسر بل هو مريد للعسر ولما لا يستحق الشكر والحمد عليه ، فهذه الآية دالة من هذه الوجوه على بطلان قول أهل الجبر وأنهم وصفوا الله تعالى بما نفاه عن نفسه ولا يليق به .

التالي السابق


الخدمات العلمية