الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3022 4 - حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 111 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 111 ] مطابقته للترجمة في قوله: " لما قضى الله الخلق". ومغيرة، بضم الميم وكسرها.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم في التوبة، والنسائي في النعوت، كلهم عن قتيبة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لما قضى الله الخلق"، قال الخطابي: يريد: لما خلق الله الخلق كما في قوله تعالى: فقضاهن سبع سماوات ؛ أي: خلقهن. وقال ابن عرفة: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، وبه سمي القاضي؛ لأنه إذا حكم فقد فرغ مما بين الخصمين. قوله: " كتب في كتابه"؛ أي: أمر القلم أن يكتب في كتابه وهو اللوح المحفوظ، والمكتوب هو: أن رحمتي غلبت غضبي. قوله: " فهو عنده"؛ أي: الكتاب عنده والعندية ليست مكانية، بل هو إشارة إلى كمال كونه مكنونا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم. قوله: " فوق العرش"؛ قال الخطابي: قال بعضهم: معناه دون العرش استعظاما أن يكون شيء من الخلق فوق العرش كما في قوله تعالى: بعوضة فما فوقها ؛ أي: فما دونها، أي أصغر منها. وقال بعضهم: إن لفظ الفوق زائد كما في قوله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين إذ الثنتان يرثان الثلثين. قلت: في كل منهما نظر؛ أما الأول ففيه استعمال اللفظ في غير موضعه، وأما الثاني ففيه فساد المعنى؛ لأن معناه يكون حينئذ: فهو عنده العرش، وهذا لا يصح.

                                                                                                                                                                                  والأحسن أن يقال: معنى قوله: فهو عنده فوق العرش؛ أي: علم ذلك عند الله فوق العرش لا ينسخ ولا يبدل، أو ذكر ذلك عند الله فوق العرش، ولا محذور من إضمار لفظ العلم أو الذكر على أن العرش مخلوق، ولا يستحيل أن يمسه كتاب مخلوق؛ فإن الملائكة حملة العرش حاملونه على كواهلهم، وفيه المماسة فلا محذور أن يكون كتابه فوق العرش، فإن قلت: ما وجه تخصيص هذا بالذكر على ما قلت مع أن القلم كتب كل شيء؟ قلت: لما فيه من الرجاء الكامل وإظهار أن رحمته وسعت كل شيء بخلاف غيره.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن رحمتي" بفتح (أن) على أنها بدل من " كتب" وبكسرها ابتداء كلام يحكي مضمون الكتاب. قوله: " غلبت" في رواية شعيب عن أبي الزناد في التوحيد: "سبقت" بدل " غلبت"، والمراد من الغضب معناه الغائي وهو لازمه، وهو إرادة الانتقام ممن يقع عليه الغضب والسبق والغلبة باعتبار التعلق؛ أي تعلق الرحمة سابق غالب على تعليق الغضب؛ لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد حادث، وبهذا يندفع إشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواضع كمن يدخل النار من الموحدين ثم يخرج بالشفاعة أو غيرها، وقيل: الرحمة والغضب من صفات الفعل لا من صفات الذات، فلا مانع من تقدم بعض الأفعال على بعض.

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي: في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، فالرحمة تشمل الشخص جنينا ورضيعا وفطيما وناشئا قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك، والله تعالى أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية