الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          118 - فصل

                          [ صحة العقود التي وقعت من أهل الذمة في الشرك ] .

                          ومن هذا أمر العقود التي وقعت منهم في الشرك فإن الذين أسلموا [ ص: 696 ] على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل أحدا منهم : كيف كان عقدك على امرأتك ؟ وهل نكحتها في عدتها أم بعد انقضاء عدتها ؟ وهل نكحت بولي وشهود أم لا ؟

                          ولا سأل من كان تحته أختان : هل جمعت بينهما في عقد واحد أم تزوجت واحدة بعد واحدة ؟ وقد أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلق الذين أسلموا ، ودخلوا في دين الله أفواجا ، ولم يسأل أحدا منهم عن صفة نكاحه ، بل أقرهم على أنكحتهم ، إلا أن يكون حين الإسلام أحدهم على نكاح محرم كنكاح أكثر من أربع ، أو نكاح أختين ، فكان يأمره أن يختار أربعا منهن ، وإحدى الأختين ، سواء وقع ذلك في عقد ، أو عقود ، وإن كان متزوجا بذات محرم كامرأة أبيه أمره بفراقها ، وهذا قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمهور التابعين ، ومن بعدهم .

                          وأبو حنيفة ينظر إلى صفة العقد في الكفر : هل له مساغ في الإسلام أم لا ؟ فإن كان له مساغ صححه ، وإلا أبطله ، فإن تزوج أكثر من أربع في عقد واحد فسد نكاح الجميع ، وإن كان في عقود ثبت نكاح الأربع ، وقد فسد نكاح من بعدهن من غير تخيير ، وكذلك الأختان .

                          والذي مضت به السنة قول الجمهور كما في " السنن " من حديث [ ص: 697 ] الضحاك بن فيروز ، عن أبيه قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان ، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أطلق إحداهما .

                          وفي لفظ للترمذي : " اختر أيتهما شئت " .

                          قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اختر منهن أربعا " ، فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع ، سمع بموتك فقذفه في نفسك ، ولعلك ألا تمكث إلا قليلا ، وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك ، أو لأورثهن ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال .

                          قال أحمد : وحدثنا محمد بن جعفر ، ثنا معمر ، أخبرنا ابن شهاب الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : أسلم غيلان بن سلمة ، وتحته عشر نسوة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختر منهن أربعا " .

                          وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد السلام ، حدثنا إسحاق بن [ ص: 698 ] عبد الله ، عن أبي وهب الجيشاني ، عن أبي خراش الرعيني ، عن الديلمي قال : قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية ، فقال : " إذا رجعت فطلق إحداهما " .

                          ورواه الشالنجي ، عن الضحاك بن فيروز ، عن أبيه قال : أسلمت ، وعندي امرأتان أختان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختر إحداهما " .

                          وفي المسند من حديث قيس بن الحارث قال : أسلمت وتحتي [ ص: 699 ] ثمان نسوة ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له ذلك فقال : " اختر منهن أربعا " .

                          وحديث غيلان قد رواه الإمام أحمد ، والشافعي ، ومالك ، لكن مالكا أرسله عن الزهري ، ومعمر وصله ، وحكم الناس لمالك في إرساله ، وغلطوا معمرا في وصله ، وقالوا : هو غير محفوظ .

                          قال الأثرم : ذكرت لأبي عبد الله الحديث الذي رواه البصريون عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه : " أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة " أصحيح هو ؟ قال : لا ما هو صحيح .

                          [ ص: 700 ] قال مهنا : سألت أحمد ، عن حديث معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة " قال : ليس بصحيح ، والعمل عليه .

                          كان عبد الرزاق يقول : عن معمر ، عن الزهري مرسلا .

                          وقال مسلم بن الحجاج : هذا الحديث رواه معمر بالبصرة متصلا هكذا ، فإن رواه عنه ثقة خارج البصريين حكمنا له بالصحة ، أو قال : صار الحديث صحيحا ، وإلا فالإرسال أولى .

                          قال البيهقي : فوجدنا سفيان بن سعيد الثوري ، وعبد الرحمن بن محمد ، وعيسى بن يونس وثلاثتهم كوفيون حدثوا به عن معمر متصلا .

                          قال : ورواه يحيى بن أبي كثير ، وهو يمامي ، عن الفضل بن موسى ، وهو خراساني ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصح الحديث بذلك ، والله أعلم .

                          [ ص: 701 ] وقد قال النسائي : ثنا عمرو بن يزيد الجرمي ، ثنا سيف بن عبيد الله ، ثنا سرار بن مجشر ، عن أيوب ، عن نافع ، وسالم ، عن ابن عمر : " أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة ، فأسلم وأسلمن معه ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا " .

                          قال البيهقي : قال لنا أبو عبد الله : رواة هذا الحديث كلهم ثقات ، [ ص: 702 ] تقوم بهم الحجة .

                          وقال أبو علي الحافظ : تفرد به سرار بن مجشر ، وهو بصري ثقة .

                          وبالجملة ، فشهرة القصة تغني عن إسنادها ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خيره ، ولم يفرق بين الأوائل والأواخر ، ولم يستفصله ، ولو اختلف الحال لتعين الاستفصال ، فإن الرجل حديث عهد بالإسلام ، غير عارف بشرائع الأحكام ، وتفاصيل الحلال من الحرام ، فجعل الاختيار إليه ، ولم يحجر في ذلك عليه .

                          قال المنازعون : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة ، ومعاذ ، وغيرهما الأمر بدعاء الكفار إلى أن يكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين ، والمسلم ليس له أن يتزوج أكثر من أربع ، ولا أختين في عقد واحد ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وهذا نص في المسألة قاطع للنزاع .

                          قالوا : ونكاح الخمس في عقد واحد لا يختلف فيه حكم البقاء والدوام في المنع ، فكان باطلا كنكاح ذوات المحارم .

                          [ ص: 703 ] قالوا : ولا يرد علينا النكاح بغير شهود ولا ولي ، والنكاح في العدة ؛ لأن ذلك يمنع الابتداء دون البقاء .

                          قالوا : وليس تحريم الخامسة من جهة الجمع ، فلم يختلف فيه حال الابتداء والاستدامة ، والإسلام والكفر ، كعقد المرأة على زوجين .

                          قالوا : ولو باع ذمي درهما بدرهمين ، ثم أسلم قبل القبض لم يخير في أحد الدرهمين ، كذلك إذا أسلم وتحته أختان يجب ألا يخير في إحدى الأختين ، وبأن العقد على الخمس في حال الشرك لا يخلو من أحد أمرين :

                          إما أن تقولوا : إنه صحيح ، أو فاسد ، ولا يجوز أن يقال : إنه صحيح ، إذ لو كان كذلك لم يجز نقضه بعد الإسلام ، فثبت أنه فاسد ، وإذا كان فاسدا لم يصححه الإسلام ، كنكاح ذوات المحارم .

                          قالوا : ولأنه عقد على عدد محرم ، فلا يثبت فيه التخيير ، كعقد السلم .

                          [ ص: 704 ] قالوا : وأما الحديث ، فنحن أول آخذ به ، إذ المراد بقوله : " اختر منهن أربعا " ، تعقد عليهن عقدا جديدا . وكذلك قوله في الأختين : " اختر أيتهما شئت " ، إنما هو تخيير ابتداء ، لا تخيير استدامة ، لما ذكرنا من الأدلة ، ولو كان تخيير استدامة لاحتمل أن يكون غيلان عقد عليهن في الحال التي كان يجوز فيها العقد على أكثر من أربع ، وذلك في أول الإسلام ، فإن القصر على أربع إنما وقع في سورة النساء وهي مدنية بالاتفاق ، سلمنا انتفاء [ ص: 705 ] ذلك ، فيجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم صورة الحال ، وأنه تزوجهن في عقد واحد ، فأمره أن يختار منهن أربعا يبتدئ نكاحهن ، ولا سبيل إلى العلم بانتفاء هذا .

                          قال المصححون : الآن اشتد اللزام ، واحتد الخصام ، ووجب التحيز إلى فئة الحديث الذين قصدهم الانتصار له أين كان ، ومع من كان .

                          قالوا : وأما احتجاجكم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين " فما أصحه من حديث ، وما أضعفه من استدلال ! وهل نازع في هذا مسلم حتى تحتجوا عليه به ؟ وهكذا نقول نحن ، وكل مسلم : إن الرجل إذا أسلم فحينئذ يصير له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وأما قبل ذلك فلم يكن كذلك ، فالحديث حجة عليكم ، فإنه لم يقل : أخبرهم أن عليهم ما على المسلمين قبل الإسلام .

                          والذي على المسلم : أنه لا يمكن من العقد على أختين ابتداء ولا استدامة .

                          وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وليس أمره - صلى الله عليه وسلم - على الجمع بين الأختين والتزوج بأكثر من أربع ، فلذلك كان ردا بالإسلام ، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : إن ما كان في الجاهلية مما يخالف أمري ومضى ، وانقضى فهو رد ، وإنما يرد منه ما قام الإسلام وهو على خلاف أمره ، وهكذا فعل سواء ، فإنه أبطل نكاح إحدى الأختين ، وما زاد على الأربع ، إذ ذلك خلاف أمره ، وجعل الخيرة في الممسكات إلى الزوج ، وهذا نفس أمره ، فما خالف هذا وهذا فهو رد ، فالحديث حجة على بطلان قولكم ، وبالله التوفيق .

                          [ ص: 706 ] وأما قولكم : إن نكاح الخمس في عقد واحد لا يختلف فيه حكم الابتداء ، والدوام ، فكان باطلا كنكاح ذوات المحارم ، فجوابه من وجوه :

                          أحدها : أن تحريم ما زاد على الأربع إنما كان من جهة الزيادة على العدد المباح ، والزيادة يمكن إبطالها دون النصاب ، فإن المفسدة تختص بها ، فلا معنى لتعدية الإبطال إلى النصاب ، فإن في ذلك إضرارا به ، وتنفيرا له عن الإسلام من غير مصلحة ، وقد أمكن إزالة المفسدة بمفارقة ما زاد على النصاب ، فيبقى النكاح في حق الأربع صحيحا ، فهذا محض القياس ، كما أنه مقتضى السنة . وهذا بخلاف نكاح ذوات المحارم ، فإن المفسدة التي فيه لا تزول إلا ببطلان النكاح ، لقيام سبب التحريم .

                          الوجه الثاني : أن تحريم الزائد على أربع إنما نشأ من جهة انضمامه إلى القدر الجائز ، وإلا فكل واحدة منهن لو انفردت صح العقد عليها ، بخلاف تحريم ذوات المحارم ، فإنه ثابت لذاتها وعينها ، فقياس أحد النوعين على الآخر فاسد .

                          الوجه الثالث : أن تحريم الزائد على الأربع أخف من تحريم ذوات المحارم ، ولهذا أبيح لنبينا - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على أربع ، ولم تبح [ ص: 707 ] [ ص: 708 ] له ذوات المحارم ، فلا يصح اعتبار أحد النوعين بالآخر ، ونحن لا ننظر إلى ابتداء العقد كيف وقع ، بل إلى حاله عند الإسلام ، ولهذا قد ساعدتم على أنه لو تزوجها بغير ولي ولا شهود ولا مهر ، أو في عدة ، ثم انقضت ، أو بغير تراض لم يبطله الإسلام ، فلذلك إذا عقد على خمس لم نبطله بالإسلام ، وإنما يبطل الزائد على النصاب .

                          وأما قولكم : إن تحريم الزائد على الأربع إنما كان من جهة الجمع ، فلم يفترق الحال فيه بين الابتداء ، والاستدامة ، كعقد المرأة على زوجين ، فما أفسده من قياس ! فإن هذا مما لم تختلف فيه الشرائع ولا الطبائع ، ولا تسوغه أمة من الأمم على اختلاف أديانها وآرائها .

                          وأما الجمع بين الأختين ، وبين أكثر من أربع فقد كان جائزا في بعض الشرائع ، كما قال تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) ، والجمع بين أكثر من أربع قد فعله داود ، وسليمان ، وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

                          وبالجملة ، فعقد الرجل على أكثر من امرأة مصلحة راجحة ، وعقد المرأة على أكثر من رجل مفسدة خالصة ، أو راجحة ، فاعتبار أحدهما بالآخر فاسد عقلا ، وطبعا ، وشرعا .

                          وأما قولكم : لو باع ذمي درهما بدرهمين ، ثم أسلم لم يخير في أحد الدرهمين ، كذلك لا يخير في الأختين ، فما أفسده من قياس ! فإن الصرف إذا لم يقبض لم يلزم في العقد إن قبضه ، ثم أسلم أن يفسخ العقد ، فإنهم إذا [ ص: 709 ] تعاقدوا عقود الربا وتقابضوا ، ثم أسلموا لم نفسخها ، وإن لم يتقابضوا لم نمضها ، وهكذا النكاح ، فإنه إذا اتصل به الدخول ، وسبب التحريم قائم ، أبطلناه ، وإن كان قد انقضى لم نعرض له . وإنما لم نخيره في أحد الدرهمين ، وخيرناه في إحدى الأختين ؛ لأنه لا فائدة له في تخييره في أحد الدرهمين ، ولا غرض له في ذلك ، ولا مصلحة ، بخلاف تخييره بين إحدى الأختين ، على أنه لا يمتنع أن يخير العقد في درهم بدرهم ، ويجعل له الخيار في أيهما شاء ، فنفي الحكم في ذلك غير معلوم بنص ولا إجماع .

                          وأما قولكم : العقد على الخمس في حال الشرك إما أن يقع صحيحا ، أو فاسدا . . . إلى آخره ، فجوابه من وجهين :

                          أحدهما : أنه صحيح في الجميع ، فإذا أسلم فسخ العقد في إحداهن : هذا جواب القاضي أبي يعلى .

                          قال : " وقد نص أحمد على هذا : إذا تزوج الحربي أما وبنتا ، ثم أسلم قبل الدخول ، انفسخ نكاح الأم " .

                          قال : " وهذا يدل على أنه قد صح النكاح في البنت حتى صارت هي من أمهات النساء فحرمت عليه ، ولو لم يكن صحيحا فيهما كان له أن يختار أيهما شاء ، لأنها لم تكن من أمهات النساء ، والجمع بين الأم والبنت في العقد كالجمع بين خمسة " .

                          قال : " وإنما حكمنا بصحة العقد في الجميع ؛ لأن له أن يختار الخامسة بعد إسلامه ، ويستديم نكاحها على حديث غيلان وغيره ، ولا يجوز أن يستديم نكاحا حكمنا بفساده " .

                          [ ص: 710 ] وقولكم : إنه لو كان صحيحا لم يجز تغييره ، ونقضه بعد الإسلام ، كما لو عقد على أربع لا يصح ؛ لأن الإسلام لا يغير ما يطابق حكم الإسلام ، وما زاد على الأربع يخالف حكمه ، فلهذا غيره كما لو تعاقدا عقد صرف ، وأسلما قبل التقابض حكمنا بفساده ، وإن كان الصرف في الجملة جائزا ، ولأنه لو أسلم الوثني قبل الدخول انفسخ النكاح بعد الحكم بصحته ، ولأن تغييره بعد الإسلام إنما هو إلزام ، ولا يمتنع أن يوجب الإسلام إزالة أشياء لم تكن حال الكفر كالعبادات .

                          وعندي جواب آخر : وهو أن العقد الذي وقع في حال الكفر - على هذا الوجه - لا يحكم له بصحة ، ولا فساد ، بل يقرون عليه كما يقرون على كفرهم ، فإن استمروا على الكفر لم نتعرض لعقودهم ، وإن أسلموا حكم ببطلان ما يقتضي الإسلام بطلانه - من حين الإسلام لا قبل ذلك - كالحكم في سائر عقودهم من بياعاتهم وغيرها ، فما كان قبل الإسلام فهو عفو لا نحكم له بأحكام الإسلام ، قال الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ) ، فأمر بترك ما بقي دون رد ما قبض ، ولم يكن صحيحا ، بل كان عفوا كما قال سبحانه : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) ، فجعل له ما سلف من الربا ، وإن لم يكن مباحا له ، وكذلك سائر العقود له ما سلف منها ، ويجب عليه ترك ما يحرمه الإسلام ، وهذه الآية هي الأصل في هذا الباب جميعه ، فإنه تعالى لم يبطل ما وقع في الجاهلية على خلاف شرعه ، وأمر بالتزام شرعه من حين قام [ ص: 711 ] الشرع ، ومن تأمل حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب أنكحة الكفار إذا أسلموا عليها وجده مشتقا من القرآن مطابقا له .

                          وأما قولكم : إنه عقد على أكثر من أربع ، فلم يصح فيه التخيير ، كعقد السلم ، فهل في القياس أفسد من هذا ؟ وهل يمكن أحدا أن يطرد هذا القياس فيفسخ كل نكاح وقع في الشرك ، وكل بيع ، وكل إجارة ، وكل عقد لم يستوف شروطه في الإسلام كالنكاح بلا ولي ، ولا شهود ، ولا مهر ، وكل عقد فاسد وقع فيه التقابض ؟ !

                          وأما قولكم : إنكم أول من أخذ بالحديث ، فكلا بل أول من تلطف في رده بما لا يرد به ، وما تأولتم به الحديث من أن المراد به " تخييره في ابتداء العقد على من شاء منهن " باطل لوجوه .

                          أحدها : قوله في بعض ألفاظه : " أمسك أربعا وفارق سائرهن " ، وهذا يقتضي إمساكهن بالعقد الأول ، كما قال تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك ) ، وقوله : ( فإمساك بمعروف ) ، ولا يعقل الإمساك غير هذا .

                          فإن قلتم : يعني : " أمسك أربعا منهن " تزوج أربعا ، خرج اللفظ عن القياس إلى الألغاز واللبس الذي يتنزه عنه كلام المبين عن الله .

                          [ ص: 712 ] الثاني : أنه جعل الإمساك ، والاختيار إليه ، ولو كان المراد به العقد لكان الاختيار إليهن لا إليه ؛ لأنه لا يعقد عليهن إلا برضاهن .

                          الثالث : أنه أمره بالاختيار ، وذلك واجب عليه ، ولو كان المراد تجديد العقد لم يجب عليه ، ولهذا لو أبى الاختيار أجبره عليه الحاكم ، فإن امتنع ضربه حتى يختار لأنه واجب عليه .

                          الرابع : أن هذا التأويل لا يصح عندكم إلا إذا كان قد تزوجهن في عقد واحد ، فأما إذا تزوجهن بعقود متفرقة ، فإنه يصح نكاح الأربع الأول ، ويبطل نكاح من عداهن ، وحينئذ فيكون المراد من الحديث : إذا كنت قد تزوجتهن في عقد واحد ، فنكاح الجميع باطل ، وذلك أن يتزوج أربعا منهن . ومعلوم أن هذا لا يفهم أصلا من قوله : " اختر أربعا ، وفارق سائرهن " ، ولا يفهم المخاطب ولا غيره هذا المعنى من هذا اللفظ ألبتة .

                          الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل هذا الحديث العهد بالإسلام الجاهل بالأحكام عن كيفية عقده ، ولا استفصله .

                          السادس : ما رواه الشافعي :

                          [ ص: 713 ] عن عوف بن الحارث ، عن نوفل بن معاوية الديلي قال : " أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك أربعا ، وفارق الأخرى " فعمدت إلى أقدمهن صحبة : عجوز عاقر ، معي منذ ستين سنة ، ففارقتها " . ففهم المخاطب من هذا اللفظ حقيقته ، وعمل بها .

                          [ ص: 714 ] [ ص: 715 ] السابع : أنه قال للذي أسلم على أختين : " طلق أيتهما شئت " ، وهذا لا معنى له على قول المنازع ، فإنه إن تزوج إحداهما بعد الأخرى فنكاح الثانية باطل ، وليست محلا للطلاق ، وإن تزوجهما معا فنكاحهما عنده باطل ، وليست واحدة منهما محلا للطلاق .

                          الثامن : أن في بعض طرق الحديث : " أمسك إحداهما " ، وهذا على قولكم لا يتأتى ، فإنه إن جمعهما في عقد لم يكن له سبيل على واحدة منهما حتى يمسكهما ، وإن سبق عقد إحداهما الأخرى كان الواجب عندكم أن يقال : أمسك الأولى دون الثانية ، وهذا لا يصح أن يعبر عنه بقوله : " أمسك إحداهما وأيتهما شئت " .

                          وأما قولكم : إن هذا يجوز أن يكون في الوقت الذي كان يجوز فيه العقد على أكثر من أربع ، فجوابه من وجوه :

                          أحدها : أنه لا يعلم أنه كان العقد على أكثر من أربع جائزا في وقت من الأوقات في الإسلام ، لا قبل الهجرة ، ولا بعدها ، ولو كان ذلك لنقل مع ما نقل من الناسخ ، والمنسوخ ، ولم ينقل أحد هذا قط .

                          فإن قيل : نحن لم ندع أن ذلك أبيح لفظا ، ثم نسخ ، بل كان على أصل الإباحة والعفو حتى حرمه القرآن ، قيل : هذا لا يصح ، فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله ، كما أن الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله ، وعكس هذا العقود والمطاعم ، الأصل فيها الصحة والحل إلا ما أبطله الله ورسوله وحرمه ، وهذا تقرر في موضعه .

                          [ ص: 716 ] الثاني : أن هذا لو كان مشروعا ، أو مباحا إباحة العفو لكان في المسلمين ولو رجل واحد يفعله في الإسلام قبل التحريم ، مع حرصهم على النكاح ، والاستكثار منه . ألا ترى أنهم فعلوا المتعة لما كانت مباحة ، وشرب الخمر منهم من شربها قبل التحريم .

                          الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله عن وقت العقد : هل كان قبل التحريم ، أو بعده ؟ كما لم يسأله عن كيفيته .

                          الرابع : أن هذا لا يصح على أصول المنازع ، فإن أبا حنيفة قال : إذا تزوج الحر بأربع نسوة ثم استرق ، فإنه يبطل نكاحهن ، ومعلوم أنه إنما حرم عليه نكاح ما زاد على الثنتين بالاسترقاق ، ونكاح الأربع وقع في الوقت الذي كان يجوز له فيه نكاحهن ، فكان يجب - على ما ذكروا من التأويلات - أن يختار منهن اثنتين ؛ لأنه عقد على أربع في حال كان ذلك مباحا له فيها ، ثم ورد التحريم . وهذه المسألة ذكرها محمد بن الحسن في " الجامع الكبير " .

                          وأما قولكم : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون علم الحال ، وأنه تزوجهن في عقد واحد ، فخيره بين أربع يبتدئ نكاحهن ، فهو باطل من الوجوه التي تقدمت .

                          ونزيدها هاهنا وجها آخر : وهو أن ذلك يتضمن تعليق الحكم على غير السبب المذكور في الحديث ، وإلغاء السبب الذي ذكر فيه ، وهذا باطل من الوجهين جميعا ، فإنه إنما علق الاختيار بكونه أسلم على أكثر من أربع ، [ ص: 717 ] وعندكم الاختيار إنما علق على اجتماعهن في عقد واحد لو كان اختيارا . وبالله التوفيق .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية