الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
15131 6555 - (15559) - (3 \ 432 - 433) عن يحيى بن عبد الرحمن العصري ، حدثنا شهاب بن عباد : أنه سمع بعض وفد عبد القيس وهم يقولون : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتد فرحهم بنا ، فلما انتهينا إلى القوم ، أوسعوا لنا ، فقعدنا ، فرحب بنا النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا لنا ، ثم نظر إلينا ، فقال : "من سيدكم وزعيمكم ؟ " ، فأشرنا بأجمعنا إلى المنذر بن عائذ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أهذا الأشج " . وكان أول يوم وضع عليه هذا الاسم بضربة لوجهه بحافر حمار . قلنا : نعم يا رسول الله . فتخلف بعد القوم ، فعقل رواحلهم ، وضم متاعهم ، ثم أخرج عيبته ، فألقى عنه ثياب السفر ، ولبس من صالح ثيابه ، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد بسط النبي صلى الله عليه وسلم رجله واتكأ ، فلما دنا منه الأشج ، أوسع القوم له ، وقالوا : ها هنا يا أشج . فقال النبي صلى الله عليه وسلم واستوى قاعدا ، وقبض رجله : "ها هنا يا أشج " . فقعد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ، فرحب به ، وألطفه ، وسأله عن بلاده ، وسمى له قرية قرية ; الصفا والمشقر وغير ذلك من قرى هجر ، فقال : بأبي وأمي يا رسول الله ، لأنت أعلم بأسماء قرانا منا . فقال : "إني قد وطئت بلادكم ، وفسح لي فيها " . قال : ثم أقبل على الأنصار ! فقال : "يا معشر الأنصار ! أكرموا إخوانكم ، فإنهم أشباهكم في

[ ص: 395 ] الإسلام . أشبه شيء بكم أشعارا وأبشارا ، أسلموا طائعين غير مكرهين ، ولا موتورين ، إذ أبى قوم أن يسلموا حتى قتلوا " .


قال : فلما أن أصبحوا ، قال : "كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم وضيافتهم إياكم ؟ " ، قالوا : خير إخوان ، ألانوا فراشنا ، وأطابوا مطعمنا ، وباتوا وأصبحوا يعلمونا كتاب ربنا - تبارك وتعالى - ، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم . فأعجبت النبي صلى الله عليه وسلم ، وفرح بها ، ثم أقبل علينا رجلا رجلا ، يعرضنا على ما تعلمنا وعلمنا ، فمنا من علم التحيات ، وأم الكتاب ، والسورة والسورتين والسنن ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : "هل معكم من أزوادكم شيء ؟ " ، ففرح القوم بذلك ، وابتدروا رحالهم ، فأقبل كل رجل منهم معه صبرة من تمر ، فوضعوها على نطع بين يديه ، فأومأ بجريدة في يده كان يختصر بها فوق الذراع ودون الذراعين ، فقال : "أتسمون هذا التعضوض ؟ " ، قلنا : نعم . ثم أومأ إلى صبرة أخرى ، فقال : "أتسمون هذا الصرفان ؟ " ، قلنا : نعم . ثم أومأ إلى صبرة ، فقال : "أتسمون هذا البرني ؟ " ، قلنا : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما إنه خير تمركم وأنفعه لكم " .

قال : فرجعنا من وفادتنا تلك ، فأكثرنا الغرز منه ، وعظمت رغبتنا فيه حتى صار عظم نخلنا وتمرنا البرني .

فقال الأشج : يا رسول الله ! إن أرضنا أرض ثقيلة وخمة ، وإنا إذا لم نشرب هذه الأشربة هيجت ألواننا ، وعظمت بطوننا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تشربوا في الدباء والحنتم والنقير ، وليشرب أحدكم في سقاء يلاث على فيه " ، فقال له الأشج : بأبي وأمي يا رسول الله ، رخص لنا في مثل هذه ، وأومأ بكفيه ، فقال : "يا أشج ! إني إن رخصت لك في مثل هذه - وقال بكفيه هكذا - شربته في مثل هذه - وفرج يديه وبسطها ، يعني : أعظم منها - ، حتى إذا ثمل أحدكم من شرابه ، قام إلى ابن عمه ، فهزر ساقه بالسيف " . وكان في الوفد رجل من بني عضل يقال له : الحارث ، قد هزرت ساقه في شراب لهم في بيت تمثله من الشعر في امرأة منهم ،

[ ص: 396 ] فقام بعض أهل ذلك البيت فهزر ساقه بالسيف .
فقال الحارث : لما سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جعلت أسدل ثوبي ، فأغطي الضربة بساقي ، وقد أبداها الله - تبارك وتعالى - .

التالي السابق


* قوله : "فرحب " : - بالتشديد - ، من الترحيب ; أي : قال لنا : مرحبا ، وهذا اللفظ عند العرب من حسن اللقاء .

* "وزعيمكم " : الزعيم : هو السيد ، والعطف كعطف التفسير .

* "إلى المنذر بن عائذ " : بالذال المعجمة .

* "فتخلف بعد القوم " : مشروع في ذكر ما فعل حين جاء ، والفاء للدلالة على أن الشروع في بيان حاله ينبغي أن يكون بعد جري ذكره ، ويحتمل أن الفاء للتعليل ; أي : أشاروا إليه ; لأنه فعل فعل السادات ; حيث تخلف عن بعض القوم ; أي : تأخر عنهم ; فإنهم استعجلوا في المجيء إليه صلى الله عليه وسلم ، وهذا تأخر عنهم ، فأصلح أمورهم ، وراعى أدب مجلس العظماء في تحسين الثياب .

* "عيبته " : - بفتح مهملة وسكون مثناة تحتية فموحدة - : ما يوضع فيه الثياب .

* "والمشقر " : - بضم الميم وفتح القاف مشددة - : حصن بالبحرين قديم .

* "أشبه شيئا " : الظاهر أنه بالجر بالإضافة .

* "أشعارا " : - بفتح الهمزة - : جمع شعر الإنسان ، وكذا "الأبشار" - بالفتح - : جمع بشرة بمعنى : ظاهر الجلد ; أي : إنهم أمثالكم من كل وجه .

* "ولا موتورين " : الموتور : من قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، وجاء : وترت الرجل : إذا أفزعته وأدركته بمكروه .

[ ص: 397 ] * "إذ أبى قوم " : أي : أسلموا إذ أبى قوم ، والمراد : كل قوم ; أي : غالبهم ، فالنكرة في الإثبات للعموم ; كما في علمت نفس [التكوير : 14] ، والحكم باعتبار الغالب .

* "حتى قتلوا " : على بناء المفعول .

* "خير إخوان " : أي : هم خير إخوان ، والجواب مطابق بحسب المآل .

* "ألانوا " : من الإلانة .

* "فأعجبت " : أي : هذه القصة أو الكرامة أو الخصلة .

* "على ما تعلمنا " : من التعليم ، والثاني من العلم ; أي : على وجه تعلمنا وعلمنا .

* "شيئا " : الظاهر رفعه ، فإن نصب ، فبتقدير : فهل أبقيتم معكم ؟ * "صبرة " : - بضم فسكون - : ما جمع من الطعام بلا كيل ووزن .

* "على نطع " : بكسر ففتح - .

* "يختصر بها " : أي : يأخذها .

* "التعضوض " : - بفتح فسكون - : تمر أسود حلو ، واحدته بهاء .

* "الصرفان " : - ضبط بفتحتين - .

* "وخمة " : - بفتح فكسر أو سكون - : ثقيلة ، كثيرة الأمراض .

* "هيجت " : - بكسر الهاء - ; أي : تغيرت .

* "يلاث " : على بناء المفعول ; أي : يربط .

* "في مثل هذه " : أي : في الصغيرة .

* "ثمل " : - بكسر الميم - ; أي : سكر .

[ ص: 398 ] * "إلى ابن عمه " : أي : الذي هو أحب شخص إليه ، فكيف غيره ؟

* "فهزر " : - بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة - ; كضرب لفظا ومعنى .

* "من بني عضل " : - ضبط بفتحتين - .

* * *




الخدمات العلمية