الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه وقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم

                                                                                                                                                                                                        6859 حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا سعيد حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته [ ص: 279 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 279 ] قوله : باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه ، وقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) كأنه يريد أن يستدل بالآية على المدعى من الكراهة وهو مصير منه إلى ترجيح بعض ما جاء في تفسيرها ، وقد ذكرت الاختلاف في سبب نزولها في تفسير سورة المائدة ، وترجيح ابن المنير أنه في كثرة المسائل [ ص: 280 ] عما كان وعما لم يكن ، وصنيع البخاري يقتضيه ، والأحاديث التي ساقها في الباب تؤيده ، وقد اشتد إنكار جماعة من الفقهاء ذلك ، منهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال : اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المسألة في جوابه ، ومسائل النوازل ليست كذلك ، انتهى . وهو كما قال لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي ; ويؤيده حديث سعد الذي صدر به المصنف الباب " من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ، فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال : سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء ، رفعه ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن ينسى شيئا ثم تلا هذه الآية وما كان ربك نسيا وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة ، رفعه إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي ، وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود وقد أخرج مسلم وأصله في البخاري كما تقدم في " كتاب العلم " من طريق ثابت عن أنس قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع ، فذكر الحديث ومضى في قصة اللعان من حديث ابن عمر فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ولمسلم عن النواس بن سمعان قال : أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة ، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم . ومراده أنه قدم وافدا فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال ، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفودا كانوا أو غيرهم ، وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال : لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء الآية ، كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابيا فرشوناه بردا ، وقلنا سل النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        ولأبي يعلى عن البراء إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب ، وإن كنا لنتمنى الأعراب - أي قدومهم - ليسألوا فيسمعوا هم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها ، وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية ، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة ، كالسؤال عن الذبح بالقصب ، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة ، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن ، والأسئلة التي في القرآن كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك ، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع ، أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببا للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب ، وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل مسنده لذلك بابا ، وأورد فيه عن الجماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك ، منها عن ابن عمر " لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن " وعن عمر " أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا " وعن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول : كان هذا فإن قيل لا ، قال : دعوه حتى يكون ، وعن أبي بن كعب وعن عمار نحو ذلك ، وأخرج أبو داود في المراسيل من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعا ، ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها ، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال [ ص: 281 ] سدد أو وفق ، وإن عجلتم تشتت بكم السبل وهما مرسلان يقوي بعض بعضا ، ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل الحديث نحوه قال بعض الأئمة والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين .

                                                                                                                                                                                                        أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين .

                                                                                                                                                                                                        ثانيهما : أن يدقق النظر في وجوه الفروق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف ، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه هلك المتنطعون أخرجه مسلم فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته ، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جدا ، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه ، وأشد من ذلك في كثرة السؤال ، البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها ، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس ، كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة ، إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف . والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث ، وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة ، وسيأتي مثال ذلك في حديث أبي هريرة رفعه لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله . وهو ثامن أحاديث هذا الباب ، وقال بعض الشراح : مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع ، بعد أن يفتى بالإذن أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق ، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا ؟ فيجيبه بالجواز فإن عاد فقال أخشى أن يكون من نهب أو غصب ، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة فيحتاج أن يجيبه بالمنع ، ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم ، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى ، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز ، وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه ، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة ، فإنه يذم فعله وهو عين الذي كرهه السلف ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرا على ما يصلح للحجة منها فإنه الذي يحمد وينتفع به ، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى ، فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وتسموا خصوما وهم من أهل دين واحد ، والواسط هو المعتدل من كل شيء ، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم ، وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقد وقع الكلام في أيهما أولى ، والإنصاف أن يقال كلما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين فالناس فيه على قسمين من وجد في نفسه قوة على الفهم والتحرير فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدي ، ومن وجد في نفسه قصورا فإقباله على العبادة أولى لعسر اجتماع الأمرين ، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه ، والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول له وإعراضه به عن الثاني والله الموفق . ثم المذكور في الباب تسعة أحاديث : [ ص: 282 ] بعضها يتعلق بكثرة المسائل ، وبعضها يتعلق بتكليف ما لا يعني السائل ، وبعضها بسبب نزول الآية .

                                                                                                                                                                                                        الحديث الأول وهو يتعلق بالقسم الثاني ، وكذا الحديث الثاني والخامس . قوله ( حدثنا سعيد ) هو ابن أبي أيوب كذا وقع من وجهين آخرين عند الإسماعيلي ، و " أبي نعيم " وهو الخزاعي المصري يكنى أبا يحيى ، واسم أبي أيوب مقلاص بكسر الميم وسكون القاف وآخره مهملة كان سعيد ثقة ثبتا ، وقال ابن يونس كان فقيها ، ونقل عن ابن وهب أنه قال فيه كان فهما . قلت : وروايته عن عقيل وهو ابن خالد تدخل في رواية الأقران فإنه من طبقته ، وقد أخرج مسلم هذا الحديث من رواية معمر ويونس وابن عيينة وإبراهيم بن سعد كلهم عن ابن شهاب ، وساقه على لفظ إبراهيم بن سعد ثم ابن عيينة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : عن أبيه ) في رواية يونس أنه سمع سعدا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إن أعظم المسلمين جرما ) زاد في رواية مسلم " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما " قال الطيبي فيه من المبالغة أنه جعله عظيما ثم فسره بقوله " جرما " ليدل على أنه نفسه جرم ، قال وقوله " في المسلمين " أي في حقهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن شيء ) في رواية سفيان " أمر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : لم يحرم ) زاد مسلم على الناس وله في رواية إبراهيم بن سعد ، لم يحرم على المسلمين ، وله في رواية معمر " رجل سأل عن شيء ونقر عنه " وهو بفتح النون وتشديد القاف بعدها راء أي بالغ في البحث عنه والاستقصاء .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فحرم ) بضم أوله وتشديد الراء ، وزاد مسلم " عليهم " وله من رواية سفيان " على الناس " وأخرج البزار من وجه آخر عن سعد بن أبي وقاص ، قال : كان الناس يتساءلون عن الشيء من الأمر فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال فلا يزالون يسألونه عنه حتى يحرم عليهم ، قال ابن بطال : عن المهلب ظاهر الحديث يتمسك به القدرية في أن الله يفعل شيئا من أجل شيء وليس كذلك ، بل هو على كل شيء قدير ; فهو فاعل السبب والمسبب كل ذلك بتقديره ، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر ، فعظم جرم من فعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله وقال غيره أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل وإنما ينكرون وجوبه ، فلا يمتنع أن يكون المقدر الشيء الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه فقد سبق القضاء بذلك لا أن السؤال علة للتحريم ، وقال ابن التين : قيل الجرم اللاحق به إلحاق المسلمين المضرة لسؤاله وهي منعهم التصرف فيما كان حلالا قبل مسألته ، وقال عياض المراد بالجرم هنا الحدث على المسلمين لا الذي هو بمعنى الإثم المعاقب عليه ، لأن السؤال كان مباحا ، ولهذا قال : سلوني ، وتعقبه النووي فقال هذا الجواب ضعيف بل باطل ، والصواب الذي قاله الخطابي والتيمي وغيرهما أن المراد بالجرم الإثم والذنب وحملوه على من سأل تكلفا وتعنتا فيما لا حاجة له به إليه ، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال عما يحتاج إليه لقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر فمن سأل عن نازلة وقعت له لضرورته إليها فهو معذور فلا إثم عليه ولا عتب ، فكل من الأمر بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى ، قال : ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضر به غيره كان آثما ، وسبك منه الكرماني سؤالا وجوابا ، فقال : السؤال ليس بجريمة ، ولئن كانت فليس بكبيرة ، ولئن كانت فليس بأكبر الكبائر . وجوابه أن السؤال عن الشيء بحيث يصير سببا لتحريم شيء مباح هو أعظم [ ص: 283 ] الجرم ، لأنه صار سببا لتضييق الأمر على جميع المكلفين ، فالقتل مثلا كبيرة ، ولكن مضرته راجعة إلى المقتول وحده ، أو إلى من هو منه بسبيل ، بخلاف صورة المسألة فضررها عام للجميع ، وتلقى هذا الأخير من الطيبي استدلالا وتمثيلا ، وينبغي أن يضاف إليه أن السؤال المذكور إنما صار كذلك بعد ثبوت النهي عنه . فالإقدام عليه حرام فيترتب عليه الإثم ويتعدى ضرره بعظم الإثم والله أعلم . ويؤيد ما ذهب إليه الجماعة من تأويل الحديث المذكور ما أخرجه الطبري من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الحج أفي كل عام ؟ لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتم لضللتم وله من طريق أبي عياض عن أبي هريرة ولو تركتموه لكفرتم وبسند حسن عن أبي أمامة مثله ، وأصله في مسلم عن أبي هريرة بدون الزيادة ، وإطلاق الكفر إما على من جحد الوجوب فهو على ظاهره ، وإما على من ترك مع الإقرار فهو على سبيل الزجر والتغليظ ، ويستفاد منه عظم الذنب بحيث يجوز وصف من كان السبب في وقوعه بأنه وقع في أعظم الذنوب ، كما تقدم تقريره والله أعلم . وفي الحديث أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية