الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6878 حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة سمعت الأعمش قال سألت أبا وائل هل شهدت صفين قال نعم فسمعت سهل بن حنيف يقول ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال قال سهل بن حنيف يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه لرددته وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر قال وقال أبو وائل شهدت صفين وبئست صفون

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : حدثنا عبدان ) هو عبد الله بن عثمان ، وعبدان لقب و " أبو حمزة " بالمهملة ثم الزاي هو السكري وساق المتن على لفظ أبي عوانة لأنه ساق لفظ عبدان في " كتاب الجزية " ووقعت رواية أبي عوانة مقدمة على رواية أبي حمزة ، وساق المتن ثم عطف عليه رواية أبي حمزة ، وفي آخره فسمعت سهل بن حنيف يقول ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : قال سهل بن حنيف يا أيها الناس ) قد تقدم بيان سبب خطبته بذلك في تفسير سورة الفتح ، وبيان المراد بقول سهل يوم أبي جندل ، وقوله " يفظعنا " بالظاء المعجمة المكسورة بعد الفاء الساكنة ، أي يوقعنا في أمر فظيع ، وهو الشديد في القبح ونحوه . وقوله : إلا أسهلن " بسكون اللام بعد الهاء والنون المفتوحتين ، [ ص: 302 ] والمعنى أنزلتنا في السهل من الأرض أي أفضين بنا ، وهو كناية عن التحول من الشدة إلى الفرج ، وقوله " بنا " في رواية الكشميهني " بها " ومراد سهل أنهم كانوا إذا وقعوا في شدة يحتاجون فيها إلى القتال في المغازي والثبوت والفتوح العمرية ، عمدوا إلى سيوفهم فوضعوها على عواتقهم ، وهو كناية عن الجد في الحرب ، فإذا فعلوا ذلك انتصروا ، وهو المراد بالنزول في السهل ، ثم استثنى الحرب التي وقعت بصفين لما وقع فيها من إبطاء النصر وشدة المعارضة من حجج الفريقين ، إذ حجة علي ومن معه ما شرع لهم من قتال أهل البغي حتى يرجعوا إلى الحق ، وحجة معاوية ومن معه ما وقع من قتل عثمان مظلوما ، ووجود قتلته بأعيانهم في العسكر العراقي فعظمت الشبهة حتى اشتد القتال وكثر القتل في الجانبين ، إلى أن وقع التحكيم فكان ما كان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : وقال أبو وائل شهدت صفين وبئس صفين ) كذا لأبي ذر ولغيره " وبئس صفون " وفي رواية النسفي مثله ولكن قال " وبئس الصفون " بزيادة ألف ولام والمشهور في صفين كسر الصاد المهملة وبعضهم فتحها وجزم بالكسر جماعة من الأئمة والفاء مكسورة مثقلة اتفاقا ، والأشهر فيها بالياء قبل النون كماردين وفلسطين وقنسرين وغيرها ، ومنهم من أبدل الياء واوا في الأحوال ، وعلى هاتين اللغتين فإعرابها إعراب غسلين وعربون ، ومنهم من أعربها إعراب جمع المذكر السالم فتتصرف بحسب العوامل ، مثل لفي عليين وما أدراك ما عليون ومنهم من فتح النون مع الواو لزوما نقل كل ذلك ابن مالك ولم يذكر فتح النون مع الياء لزوما وقوله " اتهموا رأيكم على دينكم " أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين ، وهو كنحو قول علي فيما أخرجه أبو داود بسند حسن " لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه " والسبب في قول سهل ذلك ما تقدم بيانه في استتابة المرتدين ، أن أهل الشام لما استشعروا أن أهل العراق شارفوا " أن يغلبوهم ، وكان أكثر أهل العراق من القراء الذين يبالغون في التدين ، ومن ثم صار منهم الخوارج الذين مضى ذكرهم ، فأنكروا على علي ومن أطاعه الإجابة إلى التحكيم ، فاستند علي إلى قصة الحديبية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب قريشا إلى المصالحة مع ظهور غلبته لهم ، وتوقف بعض الصحابة أولا حتى ظهر لهم أن الصواب ما أمرهم به ، كما مضى بيانه مفصلا في الشروط ، وأول الكرماني كلام سهل بن حنيف بحسب ما احتمله اللفظ فقال : كأنهم اتهموا سهلا بالتقصير في القتال حينئذ ، فقال لهم : بل اتهموا أنتم رأيكم فإني لا أقصر كما لم أكن مقصرا يوم الحديبية وقت الحاجة ، فكما توقفت يوم الحديبية من أجل أني لا أخالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أتوقف اليوم لأجل مصلحة المسلمين . وقد جاء عن عمر نحو قول سهل ولفظه " اتقوا الرأي في دينكم " أخرجه البيهقي في المدخل هكذا مختصرا ، وأخرجه هو والطبري والطبراني مطولا بلفظ : اتهموا الرأي على الدين ; فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهادا ، فوالله ما آلو عن الحق " وذلك يوم أبي جندل حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تراني أرضى وتأبى والحاصل أن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص ، وإلى هذا يومئ قول الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسند صحيح إلى أحمد بن حنبل سمعت الشافعي يقول القياس عند الضرورة ، ومع ذلك فليس العامل برأيه على ثقة من أنه وقع على المراد من الحكم في نفس الأمر ، وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد ليؤجر ولو أخطأ وبالله التوفيق ، وأخرج البيهقي في المدخل ، وابن عبد البر في بيان العلم عن جماعة من التابعين كالحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي بأسانيد جياد ذم القول بالرأي المجرد ويجمع ذلك كله حديث أبي هريرة لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به أخرجه الحسن بن سفيان وغيره ، ورجاله ثقات وقد صححه النووي في آخر الأربعين ، وأما ما أخرجه البيهقي من طريق الشعبي عن عمرو بن حريث عن عمر قال " إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " فظاهر في أنه أراد ذم من قال [ ص: 303 ] بالرأي مع وجود النص من الحديث لإغفاله التنقيب عليه فهذا يلام ، وأولى منه باللوم من عرف النص وعمل بما عارضه من الرأي ، وتكلف لرده بالتأويل وإلى ذلك الإشارة بقوله في الترجمة وتكلف القياس والله أعلم . وقال ابن عبد البر في بيان العلم بعد أن ساق آثارا كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه : اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم في هذه الآثار مرفوعها وموقوفها ومقطوعها ، فقالت طائفة : هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن لأنهم استعملوا آراءهم وأقيستهم في رد الأحاديث ، حتى طعنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر كأحاديث الشفاعة ، وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها ، وأنكروا الحوض والميزان وعذاب القبر ، إلى غير ذلك من كلامهم في الصفات والعلم والنظر ، وقال أكثر أهل العلم : الرأي المذموم الذي لا يجوز النظر فيه ولا الاشتغال به ، هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البدع ، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال : لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل ، قال : وقال جمهور أهل العلم الرأي المذموم في الآثار المذكورة هو القول في الأحكام بالاستحسان ، والتشاغل بالأغلوطات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصول السنن وأضاف كثير منهم إلى ذلك من يتشاغل بالإكثار منها قبل وقوعها لما يلزم من الاستغراق في ذلك من تعطيل السنن ، وقوى ابن عبد البر هذا القول الثاني واحتج له ، ثم قال : ليس أحد من علماء الأمة يثبت عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ثم يرده إلا بادعاء نسخ أو معارضة أثر غيره أو إجماع أو عمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده ، ولو فعل ذلك بغير ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إماما ، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك ، ثم ختم الباب بما بلغه عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد المشهور قال : ما أحدث أحد في العلم شيئا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فلا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية