الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثاني : يسن الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم ، إلى مكة ، سواء كان طواف عمرة ، أو طواف قدوم في حج ، وأما الأشواط الأربعة الأخيرة فإنه يمشي فيها ، ولا يرمل ، وذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد هو ابن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب ، [ ص: 391 ] فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، وأن يمشوا ما بين الركنين ، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . ثم قال البخاري رحمه الله : حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرني ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود ، أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع . ثم قال البخاري رحمه الله : حدثني محمد ، حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا فليح ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ، ومشى أربعة في الحج والعمرة ، تابعه الليث . قال : حدثني كثير بن فرقد ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن : أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك ، فاستلمه ، ثم قال : فما لنا وللرمل إنما كنا رأينا المشركين ، وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا نحب أن نتركه . انتهى منه ، وفي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، عند مسلم : حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، الحديث . وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول ، يخب ثلاثة أطواف ، ويمشي أربعة ، وأنه كان يسعى بطن المسيل ، إذا طاف بين الصفا والمروة " وفي لفظ عند البخاري ، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف الطواف الأول ، خب ثلاثا ومشى أربعا ، وكان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة " زاد مسلم : وكان ابن عمر يفعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذه النصوص الصحيحة يتبين أن الرمل في الأشواط الثلاثة في طواف العمرة وطواف القدوم مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك عامة أهل العلم إلا من شذ ، وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب . ولا يلزم بتركه دم على الأظهر لعدم الدليل ، خلافا لمن أوجب فيه الدم .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهان

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : إن قيل ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها ، والغالب اطراد العلة وانعكاسها ، بحيث يدور معها المعلل بها ، وجودا وعدما ؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 392 ] فالجواب : أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته ، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى ، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف ، كما قال تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره الآية [ 8 \ 26 ] وقال تعالى عن نبيه شعيب : واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم الآية [ 7 \ 86 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وصيغة الأمر في قوله : اذكروا في الآيتين المذكورتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك ، وإذا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل ، هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف . والكثرة بعد القلة ، وقد أشار إلى هذا ابن حجر في الفتح ، ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة ، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التنبيه الثاني : اعلم أن الروايات الثابتة في الصحيح في الرمل ظاهرها الاختلاف ; لأن في بعضها أن الرمل ليس في الشوط كله بل ما بين الركنين اليمانيين لا رمل فيه ، وقد قدمنا في حديث ابن عباس عند البخاري ما لفظه : فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، وأن يمشوا ما بين الركنين ، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . ولفظه عند مسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب . قال المشركون : إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة ، فجلسوا مما يلي الحجر ، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . فحديث ابن عباس هذا الذي أخرجه الشيخان : فيه التصريح بأنهم لم يرملوا فيما بين الركنين ، وقد بين ابن عباس علة ذلك وهي قوله : فجلسوا مما يلي الحجر ، يعني : أن المشركين جلسوا في جهة البيت الشمالية مما يلي الحجر بكسر الحاء ، وإذا فالذي بين الركنين اليمانيين لا يرونه لأن الكعبة تحول بينهم وبينه ، وإذا كانوا لا يرونهم مشوا فإذا ظهروا لهم عند ركن الحجر رملوا ، مع أن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم رمل الأشواط الثلاثة كلها ، من الحجر إلى الحجر .

                                                                                                                                                                                                                                      ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما لفظه : قال : " رمل [ ص: 393 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ، ومشى أربعا " وفي لفظ في صحيح مسلم أيضا ، عن نافع : أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله . وفي لفظ عند مسلم أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود ، حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف ، وفيه عن جابر أيضا بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عن هذا الذي ذكرنا من اختلاف الروايات : أن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع ، وما في الروايات الأخرى من الرمل في كل شوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع ، كما أجاب بهذا غير واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي في شرح مسلم : إن رمله صلى الله عليه وسلم في كل الشوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع ناسخ للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس لأنه متأخر عنه ، والمتأخر ينسخ المتقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يتعين النسخ الذي ذكره النووي ، لما تقرر في الأصول عن جماعة من العلماء ، أن الأفعال لا تعارض بينها ، فلا يلزم نسخ الآخر منها للأول ، بناء على أن الفعل لا عموم له ، فلا يقع في الخارج إلا شخصيا لا كليا ، حتى ينافي فعلا آخر ، فجائز أن يقع الفعل واجبا في وقت ، وفي وقت آخر بخلافه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الحاجب في مختصره الأصولي : مسألة : الفعلان لا يتعارضان كصوم وأكل لجواز تحريم الأكل في وقت ، وإباحته في آخر . إلخ ، ومحل عدم تعارض الفعلين المذكور ما لم يقترن بالفعلين قول يدل على ثبوت الحكم ، وإلا كان آخر الفعلين ناسخا للأول عند قوم ، وعند آخرين لا يكون ناسخا ، كما لو لم يقترن بهما قول ، وعن مالك ، والشافعي يصار إلى الترجيح بين الفعلين ، إن اقترن بهما القول وإن لم يترجح أحدهما ، فالتخيير بينهما . مثال الفعلين اللذين لم يقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم مشيه صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين ورمله في غير ذلك من الأشواط الثلاثة الأول في عمرة القضاء ، مع رمله في الجميع في حجة الوداع ، ومثال الفعلين اللذين اقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على صفات متعددة ، مختلفة كما أوضحناه في سورة النساء ، مع أن تلك الأفعال المختلفة اقترنت بقول يدل على ثبوت الحكم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " فالجاري على الأصول حسبما ذكرنا عن جماعة منهم : ابن [ ص: 394 ] الحاجب ، والعضد ، والرهوني ، وغيرهم أن طواف الأشواط كلها ليس ناسخا للمشي بين الركنين ، وأن صيغة صلاة الخوف فيها الأقوال المارة قيل : كل صورة بعد أخرى ، فهي ناسخة لها ، وقيل : كلها صحيحة لم ينسخ منها شيء ، وقيل : بالترجيح بين صورها ، وإن لم يترجح واحد ، فالتخيير .

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      ولم يكن تعارض الأفعال في كل حالة من الأحوال

                                                                                                                                                                                                                                          وإن يك القول بحكم لامعا
                                                                                                                                                                                                                                      فآخر الفعلين كان رافعا

                                                                                                                                                                                                                                          والكل عند بعضهم صحيح
                                                                                                                                                                                                                                      ومالك عنه روي الترجيح

                                                                                                                                                                                                                                          وحيثما قد عدم المصير
                                                                                                                                                                                                                                      إليه فالأولى هو التخيير

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب الضياء اللامع شرح جمع الجوامع :

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه : لم يتعرض المصنف للتعارض بين الفعلين ، وصرح الرهوني وغيره بأنه لا تعارض بينهما في الحقيقة سواء تماثل الفعلان ، أو اختلفا ، وسواء أمكن الجمع بينهما ، أو لم يمكن لأن الفعل لا عموم له من حيث هو إذ لا يقع في الأعيان ، إلا مشخصا فلا يكون كليا حتى ينافي فعلا آخر ، فجاز أن يكون واجبا في وقت مباحا في آخر ، وهذا ما لم يقترن بالفعل قول : يدل على ثبوت الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، ورأوه صلى صلاة الخوف على صفات متعددة فقال الأبياري : هذا كاختلاف القولين على الصحيح ، والمتأخر ناسخ ، وقيل : يصح إيقاعها على كل وجه من تلك الوجوه ، وبه قال القاضي : وللشافعي ميل إليه ، وقيل : يطلب الترجيح ، كما قال مالك ، والشافعي . انتهى محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      والرمل : مصدر رمل بفتح الميم يرمل بضمها رملا بفتح الميم ورملانا : إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو ؛ أي : لا يثب ، وأنشد المبرد :


                                                                                                                                                                                                                                      ناقته ترمل في النقال     متلف مال ومفيد مال



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية