الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الرابعة عشر ) جرت عادة الفقهاء في الكفارات هل هي على التخيير أو على الترتيب أن يقولوا إذا ورد النص [ ص: 106 ] بصيغة أو فهي على التخيير كقوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } وإن كان النص بصيغة من الشرطية فهي على الترتيب كقوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } ولا تكاد تجد فقيها ينازع في هذا وهو غير صحيح وبيانه أن مقتضى ما ذكروه أن يكون قوله تعالى { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } أن لا تجوز شهادة رجل وامرأتين إلا عند عدم الرجلين وقد أجمعت الأمة على جوازه عند وجود الرجلين وأن عدمهما ليس شرطا فنستفيد من هذه الآية سؤالين عظيمين : أحدهما أن الصيغة لا تقتضي الترتيب وثانيهما أن لا يلزم من عدم الشرط عدم المشروط وهو خلاف الإجماع وهو ها هنا كذلك .

وكذلك قولنا إن لم يكن العدد زوجا فهو فرد وإن لم يكن فردا فهو زوج مع أنه لا يتوقف العدد الزوج على عدم الفرد ولا الفرد على عدم الزوج بل هو واجب الثبوت في نفسه وجد الآخر أم لا وإذا انتفى الشرط وهو قولنا إن لم يكن العدد زوجا كانت الخمسة فردا قطعا فإن وجود الزوجية في العدد لا ينافي الفردية فيه ووجود الفردية فيه لا ينافي الزوجية فيه فعدم هذا الشرط لا أثر له ألبتة في عدم هذا المشروط وكقولنا إن لم يكن هذا جمادا فهو إما نبات أو حيوان وإن لم يكن هذا الحيوان ناطقا فهو بهيم مع أن البهيم في نفسه لا يتوقف على عدم الناطق بل إذا فرض الناطق ناطقا كان البهيم بهيما بالضرورة وبهذا يعلم أن نظائره كثيرة جدا ولا ترتيب فيها ولم يلزم فيها من عدم الشرط عدم المشروط بل المشروط حق في نفسه ووقع سواء وجد هذا الشرط أم لا فإن قلت : عدم الزوجية عن العدد شرط في ثبوت الفردية له فلو كان زوجا لم تثبت له الفردية فقد لزم من عدم الشرط عدم المشروط وكذلك بقية النظائر قلت : ليس مراد الناس من هذه الإطلاقات إثبات شرطية عدم الزوجية في الفردية بل الزوج زوج في نفسه لذاته من غير شرط وكذلك الفرد [ ص: 107 ] ولا نقول يشترط في كون العشرة زوجا عدم الفردية عنها فإنها لا تقبل الفردية أيضا فكيف تتوهم الشرطية والمعترض في موطن العقل قاطع وجازم بثبوت ذلك المعنى في نفسه وجوبا ذاتيا وإنما يقصد العقلاء في ذلك الموطن الذي يقبل النقيض بل مقصود الناس في هذه المواطن والموارد بيان انحصار تلك المادة في المذكور فأنت تقول : إذا انتفى الفرد بقي العدد محصورا في الزوج .

وإذا انتفى الزوج بمعنى إن لم يكن الواقع من العدد ما هو زوج تعين أن يكون الواقع ما هو فرد ولأجل ذلك لا يقولون ذلك إلا في المواطن التي يصح فيها الحصر فلا يقولون : إن لم يكن إنسانا فهو فرس لعدم انحصار الباقي من الحيوان بعد الإنسان في الفرس ولو كان المقصود ما ذكرتموه من الشرطية لكان الكلام صحيحا فإن عدم الإنسانية شرط في الفرسية لتعذر اجتماعهما بل لما كان المقصود بيان الحصر بطل الكلام لعدم الحصر في المذكور فتأمل هذا الموضع فهو صعب دقيق وعلى هذا يكون المراد في الآية انحصار الحجة التامة من الشهادة بعد الرجلين في الرجل والمرأتين فإنه لا حجة تامة من الشهادة في الشريعة إلا الرجلين والرجل والمرأتين هذا هو المجمع عليه وأما شهادة الصبيان وشهادة أربع نسوة عند الشافعي وشهادة المرأتين وحدهما فيما ينفردان فيه كالولادة فهذه الآية حجة على بطلانها لدلالتها على الحصر في الرجل والمرأتين إلا أن يقال إن الآية إنما سيقت في إثبات الديون والأموال لا الأبدان وجميع هذه الصور في أحكام الأبدان فالحصر حق في الأموال ولم يخالفه أحد ولا تدل على بطلان هذه الصور وأما الشاهد واليمين والنكول وغير ذلك فلم تكمل فيه الحجة من الشهادة بل لا شهادة فيه ألبتة كاليمين والنكول أو بعضه شهادة فقط كالشاهد واليمين فلا توجد حجة تامة مجمع عليها إلا بتينك الحجتين فإذا فرض عدم أحدهما تعين الحصر في الأخرى وإذا وضح لك أن الشرط كما يستعمل في الترتيب فكذلك يستعمل في إثبات الحصر .

والكل حقيقة لغوية فيكون التعليق أعم من الدلالة على الترتيب والدال على الأعم غير دال على الأخص كالحيوان لا يدل على الإنسان والإنسان لا يدل على الرجل والرجل لا يدل على المؤمن فلا يستقيم الاستدلال بصيغة التعليق التي هي أعم من الترتيب على الترتيب بل لا بد من قرائن أخرى وضمائم تضاف لصيغة التعليق حتى تفيد الترتيب وأن ضابط ما يتوقف فيه المشروط على الشرط الشرط الذي لا يراد به الحصر أما متى أريد به الحصر فلا فافهم هذا الموضع فهو من نفائس العلم وجوهره ودقيق المباحث وفيه التنبيه على أنه لا يلزم من عدم الشرط عدم المشروط وأن استدلال الفقهاء به على الترتيب لا يصح كما وضح لك بيانه والله أعلم .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( المسألة الرابعة عشر جرت عادة الفقهاء في الكفارات هل هي على التخيير أو على الترتيب أن يقولوا إذا ورد النص [ ص: 106 ] بصيغة أو فهي على التخيير كقوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } وإن كان النص بصيغة من الشرطية فهي على الترتيب كقوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } ولا تجد فقيها ينازع في هذا وهو غير صحيح إلى آخر المسألة ) .

قلت : ما قاله من أن الصيغة لا تقتضي الترتيب إلا بعد أن تحتف بها قرائن صحيح كما ذكر لأن هذه الصيغة تأتي لغير قصد الترتيب كما مثل وما قاله من أنه لا يلزم من عدم الشرط عدم المشروط إن أراد الشرط المعنوي فذلك باطل وهذا الشرط هو الذي يعني الفقهاء أنه يلزم من عدمه عدم مشروطه وإن أراد الشرط اللغوي فهو الذي لا يلزم من عدمه عدم المشروط أي أن هذا اللفظ وإن سمي في اصطلاح أهل اللغة والنحو شرطا لا يلزم من ذلك أن يكون شرطا معنويا فيلزم من عدمه عدم مشروطه بل يأتي الشرط اللغوي لغير ذلك القصد والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الرابعة عشر ) الشرط اللغوي كما يستعمل في الترتيب على سبيل الحقيقة اللغوية إذا لم يرد به الحصر فيكون شرطا معنويا يلزم من عدمه العدم بل سببا معنويا كما مر يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته كما في إن دخلت الدار فأنت طالق كذلك يستعمل في إثبات الحصر على سبيل الحقيقة اللغوية متى أريد به الحصر فلا يفيد الترتيب ولا يكون شرطا معنويا يلزم من عدمه عدم المشروط بل لا يتوقف المشروط عليه حينئذ أصلا كما في قوله تعالى { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فقد أجمعت الأمة على جواز شهادة الرجل والمرأتين عند وجود الرجلين وأن عدمهما ليس شرطا معنويا وكما في قولنا وإن لم يكن العدد زوجا فهو فرد وإن لم يكن فردا فهو زوج وإن لم يكن هذا جمادا فهو إما نبات أو حيوان وإن لم يكن هذا الحيوان ناطقا فهو بهيم فإن عدم الزوجية عن العدد وإن كان شرطا في ثبوت الفردية له وكذلك بقية النظائر إلا أن إثبات شرطية عدم الزوجية في الفردية وعدم الفردية في الزوجية مثلا في هذه الإطلاقات ليس هو مراد الناس بل كل من الزوج والفرد زوج وفرد في نفسه لذاته من غير شرط وإنما مراد الناس هنا بيان انحصار تلك المادة في المذكور بمعنى إن لم يكن الواقع من العدد ما هو زوج تعين أن يكون الواقع ما هو فرد وبالعكس ولذا لا يقولون ذلك إلا فيما يصح فيه الحصر لا فيما لا يصح فلا يقولون : إن لم يكن إنسانا فهو فرس لعدم انحصار الباقي من الحيوان بعد الإنسان في الفرس ولا يقصد الناس الشرطية إلا في الموطن الذي يقبل النقيض ولا يجزم العقل بوجوب ثبوت معناه له في نفسه وجوبا ذاتيا كما هنا وعلى هذا فالمراد في آية الشهادة إنما هو انحصار الحجة التامة من الشهادة بعد الرجلين في الرجل والمرأتين فإنه لا حجة تامة من الشهادة في الشريعة إلا الرجلان والرجل والمرأتان هذا هو المجمع عليه وأما شهادة الصبيان وشهادة أربع نسوة عند الشافعي وشهادة المرأتين وحدهما فيما ينفردان فيه كالولادة فهذه الآية حجة على بطلانها إلا أن يقال أن الآية إنما سيقت في إثبات الديون والأموال لا الأبدان وجميع هذه الصور في أحكام الأبدان فالحصر حق في الأموال ولم يخالفه .

[ ص: 116 ] أحد ولا يدل على بطلان هذه الصور وأما الشاهد واليمين ، واليمين والنكول وغير ذلك فلم تكمل فيه الحجة من الشهادة بل إما لا شهادة فيه ألبتة كاليمين والنكول أو بعضه شهادة كالشاهد واليمين فلا توجد حجة تامة إلا بتينك الحجتين فإذا فرض عدم إحداهما تعين الحصر في الأخرى إذا عرفت هذا عرفت أن صيغة التعليق دالة على ما يعم الترتيب وغيره فهو أعم من الترتيب فلا تدل عليه إلا بعد أن تحتف بها قرائن إذ الدال على الأعم كالحيوان لا يدل على الأخص كالإنسان فلا يستقيم قول الفقهاء في الكفارات إذا ورد النص فيها بصيغة أو فهي على التخيير كقوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } وإذا ورد النص فيها بصيغة من الشرطية فهي على الترتيب كقوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } نعم قد يقال : مرادهم بصيغة من الشرطية دالة على الشرط المعنوي الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لا مطلق الشرط اللغوي حتى يرد ما ذكر والله أعلم .




الخدمات العلمية