الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قال لا ينال عهدي الظالمين ) : والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم ، وفي قال هذه عائد على الله تعالى . والعهد : الإمامة ، قال مجاهد : أو النبوة ، قاله السدي ; أو الأمان ، قاله قتادة . وروي عن السدي ، واختاره الزجاج : أو الثواب قاله قتادة أيضا ; أو الرحمة ، قاله عطاء ; أو الدين ، قاله الضحاك والربيع ، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه ، قاله ابن عباس ; أو الأمر من قوله : ( إن الله عهد إلينا ) ، ( ألم أعهد إليكم ) ; أو إدخاله الجنة من قوله : ( كان له عند الله عهدا ) ، أن يدخله الجنة ; أو طاعتي ، قاله الضحاك أيضا ; أو الميثاق ، أو الأمانة . والظاهر من هذه الأقوال : أن العهد هي الإمامة ; لأنها هي المصدر بها ، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين . وذكر بعض أهل العلم أن قوله : ( ومن ذريتي ) هو استعلام ، كأنه قيل : أتجعل من ذريتي إماما : وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب ، أي واجعل من ذريتي . وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال ; لأن إبراهيم طلب من الله ، وسأل أن يجعل من ذريته إماما ، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين ، ودل بمفهوم الصفة على أنه ينال عهده من ليس بظالم ، وكان ذلك دليلا على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم ، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) أنه جواب لقول إبراهيم : ( ومن ذريتي ) على سبيل الجعل ، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا ، أو لا ينال عهدي ذريتك ، ولم ينط المنع بالظالمين . وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش : الظالمون بالرفع ; لأن العهد ينال ، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين ، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه . وقد فسر الظلم هنا بالكفر ، وهو قول ابن جبير ، وبظلم المعاصي - غير الكفر ، وهو قول عطاء والسدي . واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده ، قال الحسن : لم يجعل الله لهم عهدا . قال ابن أبي الفضل : ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته ، وأنه أجيب إلى ملتمسه - لا يظهر من اللفظ ; لأنه قال : ومن ذريتي ، وهو محتمل ، وجاعل من ذريتي ، أو تجعل من ذريتي ، أو اجعل من ذريتي . وإذا كان هذا كله محتملا غير منطوق به ، فمن أين لهم أنه سأل ؟ وأما قولهم : أجيب إلى ملتمسه ، فاللفظ لا يدل على ذلك ، بل يدل على ضده ; لأن ظاهره : أن أولادك ظالمون ، لكن دل الدليل على خلاف ذلك ، وهو : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة . ولو قال : لا ينال عهدي الظالمين منهم ، لدل ذلك على ما يقولون على أن اللفظ لا ينزل عليه نزولا بينا . انتهى ما ذكره ملخصا بعضه . وفيما ذكر ابن أبي الفضل نظر ; لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال . أما من قدر : واجعل من ذريتي إماما ، فهو سؤال ; وأما من قدر : وتجعل وجاعل ، فهو استفهام على حذف الاستفهام ، إذ معناه : وأجاعل أنت يا رب ، أو أتجعل يا رب من ذريتي . والاستفهام يئول معناه إلى السؤال ، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم : وجاعل ، أو تجعل من [ ص: 378 ] ذريتي إماما - خبرا ; لأنه خبر من نبي . وإذا كان خبرا من نبي كان صدقا ضرورة . ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك ، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماما . فمن أين يخبر بذلك ؟ ومن يخاطب بذلك ؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك . وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام . هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل ؟ فأجابه الله : إلى أن من كان ظالما لا يناله عهده . وأما قوله : إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون ، فليس كذلك ، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده ، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها . ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل ، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم ، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير ، أي : ظالموهم ، أو الضمير محذوف ، أي منهم . ومن أغرب الانتزاعات في قوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا كون أبي بكر لا يكون إماما ; قالوا : لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه ; لأنه سجد للأصنام ، فقد ظلم . وقد قال تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) ، وذلك بخلاف علي ; فإنه لم يسجد لصنم قط . قلت له : فيلزم أن يسمى كل من أسلم من الصحابة ظالما ، كسلمان ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمار . وهذا ما لا يذهب إليه أحد ، فلم يحر جوابا .

وقال الزمخشري : وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة ؟ وكان أبو حنيفة - رضي الله عنه - يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه . وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسين ، حتى قتل فقال : ليتني مكان ابنك . وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد ، وأرادوني على عد آجره لما فعلت . وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما قط . وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف المظلمة ؟ فإذا نصب من كان ظالما في نفسه ، فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب فقد ظلم . انتهى كلامه . وزيد بن علي الذي ذكره ، هو زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهو أخو محمد الباقر بن علي ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم . وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة ، وإنما ذكره الزمخشري ; لأنه كان بمكة مجاورا للزيدية ومصاحبا لهم ، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم . واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة ، الذي ذكره الزمخشري ، هو هشام بن عبد الملك ، خرج عليه زيد بن علي ، وكان قد قال لأخيه الباقر : ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك ؟ فأعرض عنه وقال له : لهذا وقت لا يتعداه . فدعا إلى نفسه وقال : إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب حق آل محمد ، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته . فقال له الباقر : يا زيد ، إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم ، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه . فإذا فعل ذلك سقط ، فأخذه الصبيان يتلاعبون به . فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غدا بالكناسة . فلم يلتفت زيد لكلام الباقر ، وخرج على هشام ، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة ، وأحرقه بالنار ، وكان كما حذره الباقر . وأما الدوانيقي فهو المنصور أخو السفاح ، سمي بذلك قيل لبخله . وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلا ، وذكر من عطائه وكرمه أخبارا كثيرة . وأما إبراهيم ومحمد - اللذان ذكرهما الزمخشري - فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، كانا قد تغيبا أيام السفاح ، وأول أيام المنصور ، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة ، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر ، فخطب حتى حضرت الصلاة ، فنزل وصلى بالناس ، وبويع بالمدينة طوعا ، واستعمل العمال ، وغلب على المدينة والبصرة ، وجبى الأموال . وكان إبراهيم [ ص: 379 ] أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه . وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا .

وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى ، وإن كان موضوعها أصول الدين ، فهناك ذكرها ، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال . فنقول : الذي عليه أصحاب الحديث والسنة ، أن نصب الإمام فرض ، خلافا لفرقة من الخوارج وهم أصحاب نجدة الحروري . زعموا أن الإمامة ليست بفرض ، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يحتاجون إلى إمام ، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع . واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل ، خلافا للرافضة ، إذ أوجبت ذلك عقلا ، ويكون الإمام من صميم قريش ، خلافا لفرقة من المعتزلة ، إذ قالوا : إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي ، وجب نصب النبطي دون القرشي ، وسواء في ذلك بطون قريش كلها ، خلافا لمن خص ذلك بنسل علي ، أو العباس ، إما منصوصا عليه ، وإما باجتهاد ، ويكون أفضل القوم ، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل ، خلافا لأبي العباس القلانسي ، فإنه يقول : ينعقد للمفضول ، إذا كان بصفة الإمامة ، مع وجود الفاضل ( وشروطه ) : أن يكون عدلا مجتهدا في أحكام الشريعة ، شجاعا ، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام ، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء ، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق ، فقال أبو الحسن : يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس . وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم . وقال أبو الحسن أيضا ، والقاضي أبو بكر بن الطيب : لا يجوز الخروج عليه ، وإن أمن الناس ذلك ، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة ، والمرجوع في نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين ، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك ، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين ، ولا اعتبار في ذلك بعدد ، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد ، وجبت المبايعة على كلهم ، خلافا لمن خص أهل البيعة بأربعة . وقال : لا ينعقد بأقل من ذلك ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بأربعين ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بسبعين ، ثم من خالف كان باغيا أو ناظرا أو غالطا ، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه . ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد ، خلافا للكرامية ، إذ أجازوا ذلك ، وزعموا أن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد ، والقول بالتقية باطل ، خلافا للإمامية ، ومعناها : أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماما مستورا ، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة . وليس من شرط الإمام العصمة ، خلافا للرافضة ، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرا وعلنا . وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها ، خلافا للإمامية ، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدي إليه اجتهاده . وليس لأحد الخروج عليه بالسيف ، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب ، خلافا لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم . وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي : الإمامة في الصلاة ، وموضوعها علم الفقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية