الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والناس متنازعون في المعرفة: هل حصلت بالشرع، أو بالعقل؟ وهل وجبت بهذا أو بهذا؟

والنزاع في هاتين المسألتين موجود بين عامة الطوائف، من أصحاب أحمد وغيره.

فإن الناس لهم في العقل: هل يعلم به حسن الأشياء وقبحها؟ والوجوب والتحريم، قولان مشهوران: أحدهما: أنه لا يعلم به ذلك، وهو قول الأشعري وأصحابه، وابن حامد، والقاضي أبي يعلى، والقاضي يعقوب، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم من أصحاب أحمد وكثير من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما.

والثاني: أنه يعلم به ذلك. وهذا قول المعتزلة والكرامية وغيرهم. وهو قول أبي الحسن التميمي، وأبي الخطاب، وغيرهما من أصحاب أحمد. وذكر أبو الخطاب أنه قول جمهور العلماء، وهو قول كثير من أئمة الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، كـ أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأبي نصر السجزي. وقول كثير من أصحاب مالك والشافعي، وهو الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة، وذكروه عن أبي حنيفة نفسه.

وقد بسط الكلام على هذه المسألة، وما فيها من التفصيل، في غير هذا الموضع. وكذلك المعرفة: هل تحصل بالعقل أو بالشرع؟. فيها [ ص: 458 ] نزاع بين العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء.

وحقيقة المسألة: أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل، ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع. فالإقرار الفطري: كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار، قد يحصل بالعقل، كقوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [سورة لقمان: 25].

وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [سورة الشورى: 52] فلا يحصل إلا بالوحي، كما في قوله: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي [سورة سبإ: 50].

ومما يتعلق بهذه المسألة الكلام فيما يلهمه الله تعالى المؤمنين من الإيمان، كقوله تعالى: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي [سورة المائدة: 111].

وقوله: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [سورة الأنعام: 125]، وقوله: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [سورة الزمر: 22].

وقوله: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح إلى قوله: ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور [سورة النور: 35 - 40]. [ ص: 459 ]

وقوله: حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم [سورة الحجرات: 7].

وقوله: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه [سورة المجادلة: 22] وقوله: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [سورة يونس: 25].

وأمثال ذلك مما يبين أن ما يحصل في القلوب من الهدى والنور والإيمان هو من الله تعالى بفضله ورحمته.

وهذا يتعلق بمسألة القدر. ولما كانت المعتزلة قدرية تنكر أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد، ويقولون: إن ما يحصل للعبد من الإيمان، لم يحصل من الله تعالى، بل قد أعطى الكافر من أسباب الإيمان مثل ما أعطى المؤمن، وليس له نعمة على المؤمن، أعظم من نعمته على الكافر، ولكن نفس القدرة التي بها آمن هذا بها كفر هذا، وكل منهما رجح أحد مقدوريه بلا سبب يوجب الترجيح، لأن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح. وأما من قال منهم بقول أبي الحسين: إن الفعل لا يحصل مع القدرة إلا بالداعي، وإن الله يخلق الداعي، وأنه يجب وجود المقدور عند وجودهما، فهذا موافق لأهل السنة في المعنى، وإن أظهر نزاعهم. [ ص: 460 ]

والمعتزلة كانوا هم أئمة الكلام في وجوب النظر والاستدلال بطريقة الأعراض والأجسام وما يتبع ذلك، وصاروا يقولون: إن الإيمان لا يمكن أن يحصل للعبد بدون اكتسابه له، لا يمكن عندهم أن يحصل بعلم ضروري يجعله الله في قلب العبد، ولا بإلهام وهداية منه، يختص بها من يشاء من عباده.

ولهذا خالفهم المثبتون للقدر، كـ الأشعري وغيره، وقالوا: يمكن أن يعلم بالاضطرار ما يعلم بالنظر، فإن هذا عندهم ليس أمرا لازما، لكنه بحسب العادة.

والمعتزلة يقولون: إن الإيمان إذا كان موهبة من الله تعالى لعبد، وتفضلا منه عليه، لم يستحق العبد الثواب.

وأهل السنة يقولون: هو محسن إلى العبد متفضل عليه، بأن أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن جعل له السمع والبصر والفؤاد الذي يعقل به، وأن هداه للإيمان، وأن أماته عليه، فكل هذا إحسان منه إلى المؤمن وتفضل عليه، وإن كان هو قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقا عليه نصر المؤمن، وحق العباد عليه إذا وحدوه ألا يعذبهم، فذاك حق أوجبه بنفسه، بكلماته التامات وبما تستحقه نفسه المقدسة من حقائق الأسماء والصفات، لا أن شيئا من المخلوقات أوجب عليه شيئا، أو حرم عليه شيئا [ ص: 461 ] والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.

فلما صار من أخذ ما أخذه من الكلام المحدث عنهم، كـ الأشعري ومن سلك سبيله من أصحاب أحمد ومالك والشافعي، يسلكون مسلكهم في مسألة إيجاب النظر، وأن الإيمان لا يحصل إلا به، قال أبو جعفر السمناني، أحد أئمة الأشعرية: (هذه المسألة بقية بقيت في المذهب من الاعتزال لمن اعتقدها، وذلك لكون الأشعري كان معتزلا تلميذا لأبي علي الجبائي، ثم رجع عن ذلك إلى مذهب ابن كلاب وأمثاله من الصفاتية المثبتين للقدر، والقائلين بأن أهل الكبائر لا يخلدون، ونحو ذلك من الأصول التي فارق بها المعتزلة للجماعة.

التالي السابق


الخدمات العلمية