الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : أو لبس مخيطا أو غطى رأسه [ ص: 7 ] يوما ، وإلا تصدق ) معطوف على طيب بيان للثاني والثالث من النوع الأول وجمع بينهما ; لأن الحكم فيهما واحد من حيث التقدير بالزمان فإن قوله يوما راجع إلى اللبس والتغطية ، وكذا قوله : وإلا تصدق أي ، وإن كان لبس المخيط وتغطية الرأس أقل من يوم لزمه صدقة لما علم أن كمال العقوبة بكمال الجناية ، وهو بكمال الارتفاق ، وهو بالدوام ; لأن المقصود من كل منهما دفع الحر والبرد ، واليوم يشتمل عليهما فوجب الدم والجناية قاصرة فيما دونه فوجبت الصدقة . والتحقيق أن تغطية الرأس من جملة لبس المخيط فهي جناية واحدة لما سيأتي أنه لو لبس القميص والعمامة يلزمه دم واحد عللوا بأن الجناية واحدة وحقيقة لبس المخيط أن يحصل بواسطة الخياطة اشتمال على البدن واستمساك فلذا لو ارتدى بالقميص أو اتشح أو ائتزر بالسراويل فلا بأس به ; لأنه لم يلبسه لبس المخيط لعدم الاشتمال ، وكذا لو أدخل منكبيه في القباء ، ولم يدخل يديه في الكمين ، ولم يزره لعدم الاشتمال أما إذا أدخل يديه أو زره فهو لبس المخيط لوجودهما بخلاف الرداء فإنه إذا اتزر به لا ينبغي أن يعقده بحبل أو غيره ، ومع هذا لو فعل لا شيء عليه ; لأنه لم يلبسه لبس المخيط لعدم الاشتمال أطلق في اللبس فشمل ما إذا أحدث اللبس بعد الإحرام أو أحرم ، وهو لابسه فدام على ذلك بخلاف انتفاعه بعد الإحرام بالطيب السابق عليه قبله للنص ، ولولاه لأوجبنا فيه أيضا وشمل ما إذا كان ناسيا أو عامدا عالما أو جاهلا مختارا أو مكرها فيجب الجزاء على النائم لو غطى إنسان رأسه ; لأن الارتفاق حصل له ، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه كالنائم المنقلب على شيء أتلفه ، وشمل ما إذا لبس ثوبا واحدا أو جمع اللباس كله القميص والعمامة والخفين ولذا لم يقل لبس ثوبا كغيره .

                                                                                        وبين المصنف حكم اليوم ، وما دونه ، ولم يذكر حكم الزائد عليه ليفيد أنه كاليوم فلو لبس المخيط ودام عليه أياما أو كان ينزعه ليلا ويعاوده نهارا أو عكسه يلزمه دم واحد ما لم يعزم على الترك عند النزع فإن عزم عليه ثم لبس تعدد الجزاء كفر للأول أولا ، وفي الثاني خلاف محمد ، ولو لبس يوما فأراق دما ثم داوم على لبسه يوما آخر كان عليه دم آخر بلا خلاف ; لأن للدوام فيه حكم الابتداء ، وفي الفتاوى الظهيرية ، وعندي المودع إذا لبس قميص الوديعة بغير إذن المودع فنزعه بالليل للنوم فسرق القميص في الليل فإن كان من قصده أن يلبس القميص من الغد لا يعد هذا ترك الخلاف والعود إلى الوفاق حتى يضمن ، وإن كان من قصده أن لا يلبس القميص من الغد كان هذا ترك الخلاف حتى لا يضمن . فالحاصل أن اللبس شيء [ ص: 8 ] واحد ما لم يتركه ويعزم على الترك . ا هـ .

                                                                                        واعلم أن ما ذكرناه من إيجاب الجزاء إذا لبس جميع المخيط محله ما إذا لم يتعدد سبب اللبس فإن تعدد كما إذا اضطر إلى لبس ثوب فلبس ثوبين فإن لبسهما على موضع الضرورة فعليه كفارة واحدة يتخير فيها ، وإن لبسهما على موضع الضرورة وغيره لزمه كفارتان يتخير فيها للضرورة فقط ، ومن صور تعدد اللبس واتحاده ما إذا كان به مثلا حمى يحتاج إلى اللبس لها ويستغني عنه في وقت زوالها فإن عليه كفارة واحدة ، وإن تعدد اللبس ما لم تزل عنه فإن زالت ، وأصابه مرض آخر أو حمى غيرها فعليه كفارتان كفر للأولى أو لا خلافا لمحمد في الثاني ، وكذا إذا حصره عدو فاحتاج إلى اللبس للقتال أياما يلبسها إذا خرج إليه وينزعها إذا رجع فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب هذا العدو فإن ذهب وجاء عدو غيره لزمه كفارة أخرى . والأصل في جنس هذه المسائل أنه ينظر إلى اتحاد الجهة واختلافها لا إلى صورة اللبس كيف كانت ، ولو لبس لضرورة فزالت فدام بعدها يوما ويومين فما دام في شك من زوال الضرورة فليس عليه إلا كفارة واحدة ، وإن تيقن زوالها كان عليه كفارة أخرى لا يتخير فيها هكذا ذكروا ، وذكر الحلبي في مناسكه أن مقتضاه أنه إذا لبس شيئا من المخيط لدفع برد ثم صار ينزع ويلبس كذلك ثم زال ذلك البرد ثم أصابه برد آخر غير الأول عرف ذلك بوجه من الوجوه المفيدة لمعرفته فلبس لذلك أنه يجب عليه كفارتان . ا هـ .

                                                                                        وشمل كلامه أيضا ما إذا لم يجد غير المخيط فلذا قال في المجمع : ولو لم يجد إلا السراويل فلبسه ، ولم يفتقه نوجبه أي الدم ، وأطلق في التغطية فانصرفت إلى الكامل ، وهو ما يغطي به عادة كالقلنسوة والعمامة فخرج ما لا يغطى به عادة كالطست والإجانة والعدل فلا شيء عليه ، وعلى هذا يفرع ما في الظهيرية ما لو دخل المحرم تحت ستر الكعبة فإن كان يصيب وجهه ورأسه فهو مكروه لا شيء عليه ، وإلا فلا بأس به وظاهر ما في المتون يقتضي أنه لا بد من تغطية جميع الرأس في لزوم الدم ، وما رأيته رواية ، ولهذا لم يصرحوا بحكم ما دونها ، وإنما المنقول عن الأصل اعتبار الربع ، ومشى عليه [ ص: 9 ] كثير واختاره في الظهيرية مقتصرا عليه ، وعزاه في الهداية إلى أنه عن أبي حنيفة ، وعن محمد اعتبار الأكثر ، وهو مروي عن أبي يوسف أيضا كما اعتبر أكثر اليوم في لزوم الدم واختاره في فتح القدير من جهة الدراية فالحاصل أن الربع راجح رواية والأكثر راجح دراية باعتبار أن تكامل الجناية لا يحصل بما دون الأكثر بخلاف حلق ربع الرأس فإنه معتاد ويتفرع على هذا ما لو عصب رأسه بعصابة فعلى اعتبار الربع إن أخذت قدره من الرأس لزمه دم ، وإن كان أقل فصدقة فما في المبسوط والظهيرية من أنه لو عصب رأسه يوما فعليه صدقة محمول على ما إذا لم تأخذ قدر الربع أو مفرع على اعتبار الأكثر .

                                                                                        وأراد بالرأس عضوا يحرم تغطيته على المحرم فدخل الوجه فلو غطى ربعه لزمه دم رجلا كان أو امرأة وخرج ما لا يحرم تغطيته فلا شيء عليه لو عصب موضعا آخر من جسده ، ولو كثر لكنه يكره من غير عذر كعقد الإزار وتخليل الرداء ، ولا بأس بأن يغطي أذنيه وقفاه ، ومن لحيته ما هو أسفل من الذقن بخلاف فيه ، وعارضه وذقنه ، ولا بأس بأن يضع يده على أنفه دون ثوب وبين المصنف حكم اليوم ، وما دونه فأفاد أن الليلة كاليوم كما صرح به في غاية البيان والمحيط ; لأن الارتفاق الكامل الحاصل في اليوم حاصل في الليلة ، وإن ما دونها كما دونه ، وأطلق في وجوب الصدقة فيما دون اليوم فشمل الساعة الواحدة ، وما دونها خلافا لما في خزانة الأكمل أنه في ساعة واحدة نصف صاع ، وفي أقل من ساعة قبضة من بر ولما روي عن محمد أن في لبس بعض اليوم قسطه من الدم كثلث اليوم فيه ثلث الدم ، وفي نصفه نصفه ، ومن الغريب ما في فتاوى الظهيرية هنا فإن لبس ما لا يحل له لبسه من غير ضرورة أراق لذلك دما فإن لم يجد صام ثلاثة أيام . ا هـ .

                                                                                        فإن الصوم لا مدخل له في وجوب الجناية بل يكون الدم في ذمته إلى الميسرة ، وإنما يدخل الصوم فيما إذا فعل شيئا للعذر كما سيأتي .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : لما علم أن العقوبة بكمال الجناية إلخ ) مقتضاه أنه لو أحرم بنسك ، وهو لابس المخيط ، وأدى ذلك النسك بتمامه في أقل من يوم وحل منه أن تلزمه صدقة إلا أن يوجد نص صريح بخلافه فإن قلت التجرد عن المخيط في النسك واجب مطلقا سواء طال زمن إحرامه أم قصر والتقدير باليوم والليلة إنما هو فيما إذا طال زمن الإحرام أما إذا قصر فقد حصل له في نسكه ارتفاق كامل فيكون تاركا لواجب من واجبات إحرامه فينبغي أن يجب الدم قلت لا شك في نفاسته ، ولكن يحتاج إلى نقل صريح . ا هـ . ملخصا . من حاشية المدني عن شرح المنسك للشيخ عبد الله العفيف ، وفيها عن فتاوى تلميذه الفاضل عبد الله أفندي عتاقي أنه مال إلى وجوب الدم .

                                                                                        ( قوله : والتحقيق أن تغطية الرأس إلخ ) قال في النهر : التحقيق أن بين لبس المخيط والتغطية عموما وخصوصا مطلقا فيجتمعان في التغطية في نحو العرقية المخيطة وتنفرد التغطية بوضع نحو الشاش مما ليس مخيطا على رأسه ، وهذا كاف في صحة التغاير . ( قوله : بواسطة الخياطة ) يرد عليه اللباد المشتغل باللصق فإنه ليس فيه خياطة مع أنه عد من المخيط اللهم إلا أن يراد بالخياطة انضمام بعض الأجزاء ببعضها شرح اللباب ( قوله : أو جمع اللباس كله ) أي في مجلس واحد كذا في شرح اللباب ، ومفاده أنه لو اختلف المجلس في يوم واحد تعدد الجزاء وسنذكر عنه قريبا ما يخالفه ( قوله : ما لم يعزم على الترك إلخ ) أي لم ينزعه على غرم الترك بل نزعه على قصد أن يلبسه ثانيا أو خلعه ليلبس بدله كذا في شرح اللباب فقد أفاد أن خلعه لتبديله بغيره لا يتعدد به الجزاء فليحفظ فإنه كثير الوقوع ( قوله : وفي الثاني ) أي فيما إذا لم يكفر للأول ( قوله : وعندي المودع ) كذا في هذه النسخة بإضافة عند إلى ياء المتكلم ، وهكذا رأيته في الظهيرية ، وفي سائر النسخ بدون ياء ( قوله : فالحاصل إلخ ) قال في اللباب : تنبيه : قد يتعدد الجزاء في لبس واحد بأمور : الأول التكفير بين اللبسين بأن لبس ثم كفر ودام على لبسه ، ولم ينزعه . والثاني تعدد السبب . والثالث الاستمرار على اللبس بعد زوال العذر . والرابع حدوث عذر آخر . والخامس لبس المخيط المصبوغ بطيب للرجل ويتحد [ ص: 8 ] الجزاء مع تعدد اللبس بأمور منها اتحاد السبب ، وعدم العزم على الترك عند النزع وجمع اللباس كله في مجلس أو يوم . ا هـ . قال شارحه أي مع اتحاد السبب .

                                                                                        ثم قال : واعلم أنه ذكر بعضهم ما يفيد أن اليوم في اتحاد الجزاء في حكم اللبس كالمجلس في غيره من الطيب والحلق والقص والجماع كما سيأتي ; لأنه ذكر الفارسي والطرابلسي أنه إن لبس الثياب كلها معا ، ولبس خفين فعليه دم واحد ، وإن لبس قميصا بعد يومه ثم لبس في يومه سراويل ثم لبس خفين ، وقلنسوة عليه كفارة واحدة فقيد باليوم لا بالمجلس ، وفي الكرماني ، ولو جمع اللباس كله في يوم واحد فعليه دم واحد لوقوعه على جهة واحدة وسبب واحد فصار كجناية واحدة ، ومثله ما ذكره بعضهم في حلق الرأس إذا حلق في أربع مجالس عليه دم واحد ، وقيل عليه أربع دماء ، وقد صرح في منية الناسك بتعدد الجزاء في تعدد الأيام حيث قال : وإن لبس العمامة يوما ثم لبس القميص يوما آخر ثم الخفين يوما آخر ثم السراويل يوما آخر فعليه لكل لبس دم . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : كما إذا اضطر إلى لبس ثوب فلبس ثوبين ) قال في الفتح ، وكذلك نحو أن يضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين أو قميصا وجبة أو اضطر إلى لبس قلنسوة فلبسها مع عمامته . ا هـ .

                                                                                        وكذا في المعراج وغاية البيان ، وإنما ذكرنا ذلك ; لأن المؤلف سيذكر ما يخالفه عند قوله ، وإن تطيب أو لبس إلخ فتنبه له . ( قوله : فإن لبسهما على موضع الضرورة فعليه كفارة واحدة ) ، وكذا إذا لبسهما على موضعين لضرورة بهما في مجلس واحد بأن لبس عمامة وخفا بعذر فيهما فعليه كفارة واحدة ، وهي كفارة الضرورة ; لأن اللبس على وجه واحد فتجب كفارة واحدة كذا في شرح اللباب ( قوله : ومن صور تعدد اللبس ) كذا في النسخ التي رأيتها ، والذي في الفتح والنهر عنه السبب بدل اللبس . ( قوله : وذكر الحلبي في مناسكه أن مقتضاه إلخ ) قال في النهر والحكم في المذهب مسطور كذلك ثم ساق عن الفتح مسألة الحمى السابقة ( قوله : وما رأيته رواية ) أي ما رأيت ظاهر ما في المتون مرويا ، وقوله ولهذا علة لقوله يقتضي لا لقوله ، وما رأيته ، والضمير في لم يصرحوا لأصحاب المتون ، وفي شرح اللباب .

                                                                                        واعلم أنه إذا ستر بعض كل منهما أي الوجه والرأس فالمشهور من الرواية عن أبي حنيفة أنه اعتبر الربع فبتغطية ربع الرأس يجب ما يجب بكله كما ذكر في غير موضع ، وهو الصحيح على ما قاله غير واحد ، وعن أبي يوسف أنه يعتبر أكثر الرأس على ما نقل عنه صاحب الهداية والكافي والمبسوط ونقله في المحيط والذخيرة والبدائع والكرماني عن محمد لكن قال الزيلعي ، وقياس قول محمد أن يعتبر فيه الوجوب بحسابه من الدم . ا هـ .

                                                                                        وكذا الحكم في الوجه على ما نص عليه في المبسوط والوجيز وغيرهما ، وأما ما في خزانة الأكمل ، وإن غطى ثلث رأسه أو ربعه لا شيء عليه بخلاف الحلق فهو شاذ مخالف لكلام غيره بل لكلامه أيضا فإنه قال في موضع آخر : وبتغطيه ربع وجهه أو ربع رأسه يجب ما يجب بكله اللهم إلا أن يقال : أراد بقوله لا شيء عليه أي من الدم لا من [ ص: 9 ] الصدقة ويكون بناء على قولهما لا على قول الإمام الأعظم والله أعلم . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : فأفاد أن الليلة كاليوم ) أي فإذا لبس ليلة وجب دم كما في اليوم قال في شرح اللباب والظاهر أن المراد مقدار أحدهما فيفيد أن من لبس من نصف النهار إلى نصف الليل من غير انفصال ، وكذا في عكسه لزمه دم كما يشير إليه قوله : وفي أقل من يوم ، وليلة صدقة وتمامه فيه ، وفي حاشية المدني قال الشيخ حنيف الدين المرشدي ، ولم أر ذلك لغيره فيما اطلعت عليه من المناسك وغيرها . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : خلافا لما في خزانة الأكمل إلخ ) قال في النهر : وهو ظاهر في أنه أراد بالساعة الفلكية . ( قوله : كما سيأتي ) أي عند قول المصنف ، وإن تطيب أو لبس أو حلق بعذر لكن فيه كلام سنذكره .




                                                                                        الخدمات العلمية