الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا من غير الرسول

                                                                                                                                                                                                        6922 حدثنا حماد بن حميد حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن المنكدر قال رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصائد الدجال قلت تحلف بالله قال إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة ) النكير بفتح النون وزن عظيم : المبالغة في الإنكار . وقد اتفقوا على أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما يفعل بحضرته أو يقال ويطلع عليه بغير إنكار دال على الجواز ؛ لأن العصمة تنفي عنه ما يحتمل في حق غيره مما يترتب على الإنكار فلا يقر على باطل ، فمن ثم قال : لا من غير الرسول ؛ فإن سكوته لا يدل على الجواز ، ووقع في تنقيح الزركشي في [ ص: 336 ] الترجمة بدل قوله لا من غير الرسول " لأمر يحضره الرسول " ولم أره لغيره ، وأشار ابن التين إلى أن الترجمة تتعلق بالإجماع السكوتي ، وأن الناس اختلفوا ، فقالت طائفة : لا ينسب لساكت قول لأنه في مهلة النظر ، وقالت طائفة إن قال المجتهد قولا وانتشر لم يخالفه غيره بعد الاطلاع عليه فهو حجة ، وقيل لا يكون حجة حتى يتعدد القيل به ، ومحل هذا الخلاف أن لا يخالف ذلك القول نص كتاب أو سنة ، فإن خالفه فالجمهور على تقديم النص ، واحتج من منع مطلقا أن الصحابة اختلفوا في كثير من المسائل الاجتهادية ، فمنهم من كان ينكر على غيره إذا كان القول عنده ضعيفا ، وكان عنده ما هو أقوى منه من نص كتاب أو سنة ، ومنهم من كان يسكت فلا يكون سكوته دليلا على الجواز ، لتجويز أن يكون لم يتضح له الحكم ، فسكت لتجويز أن يكون ذلك القول صوابا وإن لم يظهر له وجهه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : حدثنا حماد بن حميد ) هو خراساني فيما ذكر أبو عبد الله بن منده في رجال البخاري ، وذكر ابن رشيد في فوائد رحلته ، والمزي في التهذيب أن في بعض النسخ القديمة من البخاري " حدثنا حماد بن حميد صاحب لنا " حدثنا بهذا الحديث وعبيد الله بن معاذ في الأحياء ، وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل " حماد بن حميد " نزيل عسقلان روى عن بشر بن بكر وأبي ضمرة وغيرهما وسمع منه أبو حاتم وقال شيخي فزعم أبو الوليد الباجي في رجال البخاري أنه هو الذي روى عنه البخاري هنا وهو بعيد ، وقد بينت ذلك في تهذيب التهذيب وقد أخرج مسلم حديث الباب عن عبيد الله بن معاذ بلا واسطة ، وهو أحد الأحاديث التي نزل فيها البخاري عن مسلم ، أخرجها مسلم عن شيخ وأخرجها البخاري بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ وهي أربعة أحاديث ليس في الصحيح غيرها بطريق التصريح ، وفيه عدة أحاديث نحو الأربعين مما يتنزل منزلة ذلك ، وقد أفردتها في جزء جمعت ما وقع للبخاري من ذلك فكان أضعاف أضعاف ما وقع لمسلم ، وذلك أن مسلما في هذه الأربعة باق على الرواية عن الطبقة الأولى أو الثانية من شيوخه ، وأما البخاري فإنه نزل فيها عن طبقته العالية بدرجتين ، مثال ذلك من هذا الحديث أن البخاري إذا روى حديث شعبة عاليا كان بينه وبينه راو واحد ، وقد أدخل بينه وبين شعبة فيه ثلاثة ، وأما مسلم فلا يروي حديث شعبة بأقل من واسطتين . والحديث الثاني من الأربعة مضى في تفسير سورة الأنفال ، أخرجه عن أحمد وعن محمد بن النضر النيسابوريين عن عبيد الله بن معاذ أيضا عن أبيه عن شعبة بسند آخر ، وأخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ نفسه .

                                                                                                                                                                                                        والحديث الثالث أخرجه في آخر المغازي عن أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد بن حنبل عن معتمر بن سليمان عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن أبيه في عدد الغزوات ، وأخرجه مسلم عن أحمد بن حنبل بهذا السند بلا واسطة . والحديث الرابع وقع في " كتاب كفارة الأيمان " عن محمد بن عبد الرحيم ، وهو الحافظ المعروف بصاعقة عن داود بن رشيد عن الوليد بن مسلم عن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن علي بن الحسين بن علي بن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة في فضل العتق ، وأخرجه مسلم عن داود بن رشيد نفسه وهذا مما نزل فيه البخاري عن طبقته درجتين ؛ لأنه يروي حديث ابن غسان بواسطة واحدة كسعيد بن أبي مريم ، وهنا بينهما ثلاث وسائط ، وقد أشرت لكل حديث من هذه الأربعة في موضعه ، وجمعتها هنا تتميما للفائدة ، وعبيد الله بن معاذ أي ابن معاذ بن نصر بن حسان العنبري ، وسعد بن إبراهيم أي ابن عبد الرحمن بن عوف ، وروايته عن محمد بن المنكدر من الأقران لأنه من طبقته .

                                                                                                                                                                                                        قوله : رأيت جابر بن عبد الله يحلف ) أي شاهدته حين حلف . [ ص: 337 ] قوله ( أن ابن الصياد ) كذا لأبي ذر بصيغة المبالغة ، ووقع عند ابن بطال مثله لكن بغير ألف ولام وكذا في رواية مسلم وللباقين " ابن الصائد " بوزن الظالم .

                                                                                                                                                                                                        ( تحلف بالله قال إني سمعت عمر ، إلخ ) كأن جابرا لما سمع عمر يحلف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ، فهم منه المطابقة ، ولكن بقي أن شرط العمل بالتقرير أن لا يعارضه التصريح بخلافه ، فمن قال أو فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأقره دل ذلك على الجواز ، فإن قال النبي صلى الله عليه وسلم افعل خلاف ذلك دل على نسخ ذلك التقرير ، إلا إن ثبت دليل الخصوصية ، قال ابن بطال بعد أن قرر دليل جابر فإن قيل تقدم يعني كما في الجنائز أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن الصياد دعني أضرب عنقه ، فقال : إن يكن هو فلن تسلط عليه فهذا صريح في أنه تردد في أمره ، يعني فلا يدل سكوته عن إنكاره عند حلف عمر على أنه هو ، قال وعن ذلك جوابان ؛ أحدهما : أن الترديد كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه هو الدجال ، فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه . والثاني : أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك وإن لم يكن في الخبر شك ، فيكون ذلك من تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بعمر في صرفه عن قتله انتهى . ملخصا . ثم ذكر ما ورد عن غير جابر ، مما يدل على أن ابن صياد هو الدجال ، كالحديث الذي أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر قال : " لقيت ابن صياد يوما ومعه رجل من اليهود ، فإذا عينه قد طفئت وهي خارجة مثل عين الجمل ، فلما رأيتها قلت : أنشدك الله يا ابن صياد متى طفئت عينك ؟ قال لا أدري والرحمن . قلت : كذبت لا تدري وهي في رأسك ، قال فمسحها ونخر ثلاثا ، فزعم اليهودي أني ضربت بيدي صدره ، وقلت له : اخسأ فلن تعدو قدرك ، فذكرت ذلك لحفصة ، فقالت حفصة : اجتنب هذا الرجل فإنما يتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها " انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج مسلم هذا الحديث بمعناه من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه : لقيته مرتين ، فذكر الأولى ثم قال " لقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه ، فقلت متى فعلت عينك ما أرى ؟ قال ما أدري ، قلت : لا تدري وهي في رأسك ، قال إن شاء الله جعلها في عصاك هذه ، ونخر كأشد نخير حمار سمعت ، فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت ، وأنا والله ما شعرت " قال : وجاء حتى دخل على أم المؤمنين حفصة فحدثها فقالت ما تريد إليه ؟ ألم تسمع أنه قد قال : إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه ، ثم قال ابن بطال : فإن قيل هذا أيضا يدل على التردد في أمره فالجواب أنه إن وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله عيسى ابن مريم ، فلم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله إن بين يدي الساعة دجالين كذابين " يعني الحديث الذي مضى مع شرحه في " كتاب الفتن " انتهى . ومحصله عدم تسليم الجزم بأنه الدجال ، فيعود السؤال الأول عن جواب حلف عمر ثم جابر على أنه الدجال المعهود ، لكن في قصة حفصة وابن عمر دليل على أنهما أرادا الدجال الأكبر واللام في القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن موسى بن عقبة عن نافع قال كان ابن عمر يقول والله ما أشك أن المسيح الدجال هو ابن صياد ، ووقع لابن صياد مع أبي سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بأمر الدجال ، فأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي : ماذا لقيت من الناس يزعمون أني الدجال ، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه لا يولد له ، قلت : بلى . قال : فإنه قد ولد لي ، قال أو لست سمعته يقول لا يدخل المدينة ولا مكة ، قلت بلى . قال : فقد ولدت بالمدينة وها أنا أريد مكة ومن طريق سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : أخذتني من ابن صياد دمامة ، فقال : هذا عذرت الناس ما لي وأنتم يا أصحاب [ ص: 338 ] محمد ، ألم يقل نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه يعني الدجال يهودي وقد أسلمت " فذكر نحوه ومن طريق الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد " خرجنا حجاجا ومعنا ابن صياد فنزلنا منزلا وتفرق الناس ، وبقيت أنا وهو ، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال فيه . فقلت : الحر شديد فلو وضعت ثيابك تحت تلك الشجرة ففعل ، فرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس فقال اشرب يا أبا سعيد ، فقلت إن الحر شديد وما بي إلا أن أكره أني أشرب من يده ، فقال : لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق به ، مما يقول لي الناس يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار . ثم ذكر نحو ما تقدم وزاد قال أبو سعيد " حتى كدت أعذره " وفي آخر كل من الطرق الثلاثة أنه قال " إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن " قال أبو سعيد : فقلت له تبا لك سائر اليوم ، لفظ الجريري وأجاب البيهقي عن قصة ابن صياد بعد أن ذكر ما أخرجه أبو داود من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكث أبو الدجال ثلاثين عاما لا يولد لهما ثم يولد لهما غلام أعور أضر شيء وأقله نفعا ونعت أباه وأمه ، قال : فسمعنا بمولود ولد في اليهود ، فذهبت أنا والزبير بن العوام فدخلنا على أبويه ، فإذا النعت فقلنا هل لكما من ولد قالا مكثنا ثلاثين عاما لا يولد لنا ثم ولد لنا غلام أضر شيء وأقله نفعا " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قال البيهقي : تفرد به علي بن زيد بن جدعان وليس بالقوي . قلت : ويوهي حديثه أن أبا بكرة إنما أسلم لما نزل من الطائف حين حوصرت سنة ثمان من الهجرة ، وفي حديث ابن عمر الذي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى النخل التي فيها ابن صياد كان ابن صياد يومئذ كالمحتلم ، فمتى يدرك أبو بكرة زمان مولده بالمدينة وهو لم يسكن المدينة إلا قبل الوفاة النبوية بسنتين ، فكيف يتأتى أن يكون في الزمن النبوي كالمحتلم ، فالذي في الصحيحين هو المعتمد ولعل الوهم وقع فيما يقتضي تراخي مولد ابن صياد أولا ، وهم فيه بل يحتمل قوله " بلغنا أنه ولد لليهود مولود " على تأخر البلاغ وإن كان مولده كان سابقا على ذلك بمدة ، بحيث يأتلف مع حديث ابن عمر الصحيح ، ثم قال البيهقي : ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر ، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفا في أمره ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري ، وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد وطريقه أصح ، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال . قلت : قصة تميم أخرجها مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ، فذكر أن تميما الداري ركب في سفينة مع ثلاثين رجلا من قومه ، فلعب بهم الموج شهرا ثم نزلوا إلى جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر فقالت لهم : أنا الجساسة ، ودلتهم على رجل في الدير ، قال فانطلقنا سراعا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا ، وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه بالحديد ، فقلنا ويلك ما أنت؟ فذكر الحديث ، وفيه أنه سألهم عن نبي الأميين هل بعث ، وأنه قال إن يطيعوه فهو خير لهم ، وأنه سألهم عن بحيرة طبرية ، وعن عين زغر وعن نخل بيسان ، وفيه أنه قال إني مخبركم عني أنا المسيح ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض ، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة ، غير مكة وطيبة ، وفي بعض طرقه عند البيهقي أنه شيخ ، وسندها صحيح قال البيهقي : فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد ، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر صلى الله عليه وسلم بخروجهم ، وقد خرج أكثرهم وكان الذين يجزمون بابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم ، وإلا فالجمع بينهما بعيد جدا إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم ، ويجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله أن يكون في آخرها شيخا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزائر البحر موثقا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا ؟ فالأولى أن يحمل على عدم الاطلاع ، أما عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع [ ص: 339 ] قصة تميم ، ثم لما سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور . وأما جابر فشهد حلفه عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستصحب ما كان اطلع عليه من عمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن أخرج أبو داود من رواية الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر ، فذكر قصة الجساسة والدجال بنحو قصة تميم ، قال : قال - أي الوليد - فقال لي ابن أبي سلمة : إن في هذا شيئا ما حفظته ، قال شهد جابر أنه ابن صياد ، قلت : فإنه قد مات ، قال : وإن مات .

                                                                                                                                                                                                        قلت : فإنه أسلم ، قال : وإن أسلم . قلت : فإنه دخل المدينة ، قال وإن دخل المدينة انتهى . وابن أبي مسلمة اسمه عمر فيه مقال ولكن حديثه حسن ، ويتعقب به على من زعم أن جابرا لم يطلع على قصة تميم ، وقد تكلم ابن دقيق العيد على مسألة التقرير في أوائل " شرح الإلمام " فقال : ما ملخصه إذا أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعي ، فهل يكون سكوته صلى الله عليه وسلم دليلا على مطابقة ما في الواقع كما وقع لعمر في حلفه على ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه ، فهل يدل عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر ، حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل ، فيه نظر .

                                                                                                                                                                                                        قال : والأقرب عندي أنه لا يدل ، لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل ، وذلك يتوقف على تحقق البطلان ، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة ، إلا أن يدعي مدع أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة فيحتاج إلى دليل وهو عاجز عنه ، نعم التقرير يسوغ الحلف على ذلك على غلبة الظن لعدم توقف ذلك على العلم انتهى . ملخصا . ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوفي الطرفين ، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قسم خلاف الأولى ، قال الخطابي اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد كبره ، فروي أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة ، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا وجهه حتى يراه الناس ، وقيل لهم اشهدوا ، وقال النووي : قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة ، وأمره مشتبه لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة ، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء ، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال . وكان في ابن صياد قرائن محتملة ، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء بل قال لعمر : لا خير لك في قتله " الحديث وأما احتجاجاته هو بأنه مسلم إلى سائر ما ذكر فلا دلالة فيه على دعواه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان قال : ومن جملة ما في قصته قوله للنبي صلى الله عليه وسلم أتشهد أني رسول الله وقوله أنه يأتيه صادق وكاذب ، وقوله إنه تنام عينه ولا ينام قلبه وقوله : إنه يرى عرشا على الماء ، وأنه لا يكره أن يكون الدجال ، وأنه يعرفه ويعرف مولده وموضعه وأين هو الآن قال : وأما إسلامه وحجه وجهاده فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال ، لاحتمال أن يختم له بالشر ، فقد أخرج أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال ، فساق من طريق شبيل بمعجمة وموحدة مصغرا آخره لام ، ابن عرزة بمهملة ثم زاي بوزن ضربة ، عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال : لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ ، فكنا نأتيها فنمتار منها ، فأتيتها يوما فإذا اليهود يزفنون ويضربون ، فسألت صديقا لي منهم فقال ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل فبت عنده على سطح فصليت الغداة " فلما طلعت الشمس إذا لرهج من قبل العسكر فنظرت ، فإذا رجل عليه قبة من ريحان واليهود يزفنون ويضربون ، فنظرت فإذا هو ابن صياد ، فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وعبد الرحمن بن حسان ما عرفته والباقون ثقات ، وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر قال " فقدنا ابن صياد يوم الحرة " وبسند حسن مضى التنبيه عليه فقيل إنه مات . قلت : وهذا يضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة ، وأنهم صلوا عليه وكشفوا عن وجهه ، ولا يلتئم خبر جابر هذا مع خبر حسان بن عبد الرحمن ؛ لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر كما أخرجه أبو نعيم في تاريخها ، وبين قتل عمر ووقعة الحرة نحو أربعين سنة ويمكن الحمل على أن [ ص: 340 ] القصة إنما شاهدها والد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة ، ويكون جواب لما في قوله لما افتتحنا أصبهان محذوفا تقديره : صرت أتعاهدها وأتردد إليها فجرت قصة ابن صياد ، فلا يتحد زمان فتحها وزمان دخولها ابن صياد . وقد أخرج الطبراني في الأوسط من حديث فاطمة بنت قيس مرفوعا : إن الدجال يخرج من أصبهان ، ومن حديث عمران بن حصين حين أخرجه أحمد بسند صحيح عن أنس : لكن عنده من يهودية أصبهان ، قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان كانت اليهودية من جملة قرى أصبهان ، وإنما سميت اليهودية لأنها كانت تختص بسكنى اليهود قال : ولم تزل على ذلك إلى أن مصرها أيوب بن زياد أمير مصر في زمن المهدي بن المنصور ، فسكنها المسلمون وبقيت لليهود منها قطعة منفردة ، وأما ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا قال يتبع الدجال سبعون ألفا من يهود أصبهان فلعلها كانت يهودية أصبهان ، يريد البلد المذكور لا أن المراد جميع أهل أصبهان يهود ، وأن القدر الذي يتبع الدجال منهم سبعون ألفا ، وذكر نعيم بن حماد شيخ البخاري في " كتاب الفتن " أحاديث تتعلق بالدجال وخروجه إذا ضمت إلى ما سبق ذكره في أواخر " كتاب الفتن " انتظمت منها له ترجمة تامة ، منها ما أخرجه من طريق جبير بن نفير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة ، قالوا جميعا " الدجال ليس هو إنسان وإنما هو شيطان موثق بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن ، لا يعلم من أوثقه سليمان النبي أو غيره ، فإذا آن ظهوره فك الله عنه كل عام حلقة . فإذا برز أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعا فيضع على ظهرها منبرا من نحاس ويقعد عليه ويتبعه قبائل الجن يخرجون له خزائن الأرض .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهذا لا يمكن معه كون ابن صياد هو الدجال ، ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب . وأخرج أبو نعيم أيضا من طريق كعب الأحبار أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر ، قال وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة ، قال ولم ينزل خبره في التوراة والإنجيل ، وإنما هو في بعض كتب الأنبياء انتهى . وأخلق بهذا الخبر أن يكون باطلا ، فإن الحديث الصحيح أن كل نبي قبل نبينا أنذر قومه الدجال . وكونه يولد قبل مخرجه بالمدة المذكورة مخالف لكونه ابن صياد ولكونه موثقا في جزيرة من جزائر البحر . وذكر ابن وصيف المؤرخ أن الدجال من ولد شق الكاهن المشهور ، قال وقال بل هو شق نفسه أنظره الله وكانت أمه جنية عشقت أباه فأولدها ، وكان الشيطان يعمل له العجائب فأخذه سليمان فحبسه في جزيرة من جزائر البحر ، وهذا أيضا في غاية الوهي ، وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا ، وأن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها ، ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد ، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم ، وقد توهم بعضهم أنه غريب فرد وليس كذلك فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر ، أما أبو هريرة فأخرجه أحمد من رواية عامر الشعبي عن المحرز بن أبي هريرة عن أبيه بطوله . وأخرجه أبو داود مختصرا وابن ماجه عقب رواية الشعبي عن فاطمة ، قال الشعبي : فلقيت المحرز فذكره ، وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أبي هريرة قال استوى النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال حدثني تميم - فرأى تميما في ناحية المسجد - فقال يا تميم حدث الناس بما حدثتني فذكر الحديث وفيه فإذا أحد منخريه ممدود وإحدى عينيه مطموسة الحديث وفيه لأطأن الأرض بقدمي هاتين إلا مكة وطابا وأما حديث عائشة فهو في الرواية المذكورة عن الشعبي قال " ثم لقيت القاسم بن محمد فقال : أشهد على عائشة حدثتني بما حدثتك فاطمة بنت قيس " . وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود بسند حسن من رواية أبي سلمة عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر أنه بينما أناس يسيرون في البحر فنفد طعامهم فرفعت لهم جزيرة فخرجوا يريدون الخبر فلقيتهم الجساسة فذكر [ ص: 341 ] الحديث وفيه سؤالهم عن نخل بيسان ، وفيه أن جابرا شهد أنه ابن صياد ، فقلت إنه قد مات قال وإن مات ، قلت : فإنه أسلم قال : وإن أسلم ، قلت : فإنه دخل المدينة قال : وإن دخل المدينة ، وفي كلام جابر إشارة إلى أن أمره ملبس وأنه يجوز أن يكون ما ظهر من أمره إذ ذاك لا ينافي ما توقع منه بعد خروجه في آخر الزمان .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج أحمد من حديث أبي ذر " لأن أحلف عشر مرات أن ابن صياد هو الدجال ، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه ليس هو " وسنده صحيح ومن حديث ابن مسعود نحوه لكن قال " سبعا " بدل عشر مرات أخرجه الطبراني والله أعلم . وفي الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن ، ومن صوره المتفق عليها عند الشافعية ومن تبعهم أن من وجد بخط أبيه الذي يعرفه أن له عند شخص مالا وغلب على ظنه صدقه أن له إذا طالبه ، وتوجهت عليه اليمين أن يحلف على البت أنه يستحق قبض ذلك منه .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية