الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1325 - مسألة : ولا ضمان على أجير مشترك أو غير مشترك ، ولا على صانع أصلا ، ولا ما ثبت أنه تعدى فيه أو أضاعه - والقول في كل ذلك - ما لم تقم عليه بينة - قوله مع يمينه ، فإن قامت عليه بينة بالتعدي ، أو الإضاعة ضمن ، وله في كل ذلك الأجرة [ ص: 29 ] فيما أثبت أنه كان عمله ، فإن لم تقم بينة حلف صاحب المتاع أنه ما يعلم أنه عمل ما يدعي أنه عمله ، ولا شيء عليه حينئذ .

                                                                                                                                                                                          وبرهان ذلك - : قول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } فمال الصانع والأجير حرام على غيره ، فإن اعتدى أو أضاع لزمه حينئذ أن يعتدى عليه بمثل ما اعتدى ، والإضاعة لما يلزمه حفظه تعد وهو ملزم حفظ ما استعمل فيه بأجر أو بغير أجر ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وحكمه عليه السلام بالبينة على من ادعى على المطلوب إذا أنكر ، ومن طلب بغرامة مال أو ادعي عليه ما يوجب غرامة فهو المدعى عليه فليس عليه إلا اليمين بحكم الله عز وجل ، والبينة على من يدعي لنفسه حقا في مال غيره .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف الناس في هذا ، فقالت طائفة كما قلنا - : روينا من طريق شعبة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال : لا يضمن الصائغ ، ولا القصار ، أو قال الخياط ، وأشباهه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة نا جبلة بن عطية عن يزيد بن عبد الله بن موهب قال في حمال استؤجر لحمل قلة عسل فانكسرت قال : لا ضمان عليه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا أزهر السمان عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين أنه كان لا يضمن الأجير إلا من تضييع .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال : ليس على أجير المشاهرة ضمان .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان الثوري عن مطرف بن طريف عن الشعبي قال : لا يضمن القصار إلا ما جنت يده .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن مطرف عن الشعبي قال : يضمن الصانع ما أعنت بيده ، ولا يضمن ما سوى ذلك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن أشعث عن ابن سيرين عن شريح أنه كان لا يضمن الملاح غرقا ولا حرقا . [ ص: 30 ] ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري قال : إذا أفسد القصار فهو ضامن وكان لا يضمنه غرقا ولا حرقا ولا عدوا مكابرا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا نص قولنا - : ومن طريق سعيد بن منصور عن مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس أنه لم يضمن القصار .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق نا معمر قال : قال ابن شبرمة : لا يضمن الصانع إلا ما أعنت بيده - وقال قتادة : يضمن إذا ضيع .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى عبد الرزاق نا سفيان الثوري أن حماد بن أبي سليمان كان لا يضمن أحدا من الصناع ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وزفر ، وأبي ثور وأحمد ، وإسحاق ، والمزني ، وأبي سليمان .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : الصناع كلهم ضامنون ما جنوا وما لم يجنوا .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق عبد الرزاق عن بعض أصحابه عن الليث بن سعد عن طلحة بن سعيد بن بكير بن عبد الله بن الأشج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن الصناع - يعني : من عمل بيده .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس بن عمرو قال : كان علي بن أبي طالب يضمن الأجير .

                                                                                                                                                                                          وصح من طريق ابن أبي شيبة نا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا كان يضمن القصار ، والصواغ ، وقال : لا يصلح الناس إلا ذلك - وروي عنه أنه ضمن نجارا .

                                                                                                                                                                                          وصح عن شريح تضمين الأجير والقصار .

                                                                                                                                                                                          وعن إبراهيم أيضا تضمين الصناع - وكذلك عن عبد الله بن عتبة بن مسعود - [ ص: 31 ] وعن مكحول أنه كان يضمن كل أجير حتى صاحب الفندق الذي يحبس للناس دوابهم - وهو قول ابن أبي ليلى حتى إنه يضمن صاحب السفينة إذا عطبت الأمتعة التي تلفت فيها .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يضمن كل من أخذ أجرا - وروي ذلك عن علي وعن عبد الرحمن بن يزيد وغيرهما .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يضمن الأجير المشترك - وهو العام - وهو الذي استؤجر على الأعمال ، ولا يضمن الخاص ، وهو الذي استؤجر لمدة ما - وهو قول أبي يوسف ، ومحمد بن الحسن - روي عن إبراهيم يضمن الأجير المشترك ، ولم يأت عنه لا يضمن الخاص .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يضمن الصانع ما غاب عليه إلا أن يقيم بينة أنه تلف بعينه من غير فعله فلا يضمن ، ولا يضمن ما ظهر أصلا ، إلا أن تقوم عليه بينة بأنه تعدى - وهو قول مالك بن أنس .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما قول مالك فما نعلم له حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول أحد قبله ولا من قياس ، وما كان هكذا فلا وجه له ولم نجد لهم شبهة إلا أنهم قالوا : إنما فعلنا ذلك احتياطا للناس . فقلنا لهم : فضمنوا الودائع احتياطا للناس ، فقد صح عن عمر بن الخطاب أنه ضمنها أنس بن مالك .

                                                                                                                                                                                          وأيضا فمن جعل المستصنعين أولى بالاحتياط لهم من الصناع والكل مسلمون ، ولو عكس عاكس عليهم قولهم لما كان بينه وبينهم فضل كمن قال : بل أضمن ما ظهر إلا أن تأتي بينة على أن الشيء تلف من غير فعله وتعديه ، ولا أضمن ما بطن إلا أن تقوم بينة عدل بأنه هلك من تعديه ، بل لعل هذا القول أحوط في النظر . وكذلك قول أبي يوسف ، ومحمد بن الحسن .

                                                                                                                                                                                          وهذا كما ترى خالفوا فيه عمر وعلي بن أبي طالب ، ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف رضي الله عنهم ، وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق آراءهم والقوم أصحاب قياس بزعمهم .

                                                                                                                                                                                          وقد قال بعضهم من أصحاب القياس : وجدنا ما يدفعه الناس بعضهم إلى بعض من أموالهم ينقسم أقساما ثلاثة لا رابع لها - : [ ص: 32 ]

                                                                                                                                                                                          فقسم ينتفع به الدافع وحده لا المدفوع إليه فقد اتفقنا أنه لا ضمان في بعضه كالوديعة ، فوجب رد كل ما كان من غيرها إليها .

                                                                                                                                                                                          وقسم ينتفع به الدافع والمدفوع إليه - فقد اتفقنا على أنه لا ضمان في بعضه كالقراض ، فوجب رد ما كان من غيره إليه ودخل في ذلك الرهن ، وما دفع إلى الصناع .

                                                                                                                                                                                          وقسم ثالث ينتفع به المدفوع إليه وحده - فقد اتفقنا في بعضه على أنه مضمون كالقرض ، فوجب أن تكون العارية مثله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لو صح قياس في العالم لكان هذا ، ولكنهم لا الآثار اتبعوا ، ولا القياس عرفوا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية