الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6970 حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش سمعت أبا صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثالث : قوله : يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي ) أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به ، وقال الكرماني : وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة التسوية فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد وهو جانب الخوف ؛ لأنه لا يختاره لنفسه بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد وهو جانب الرجاء وهو كما قال أهل التحقيق مقيد بالمحتضر ويؤيد ذلك حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله وهو عند مسلم من حديث جابر . وأما قبل ذلك ففي الأول أقوال ثالثها الاعتدال وقال ابن أبي جمرة : المراد بالظن هنا العلم وهو كقوله وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه وقال القرطبي في المفهم قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعده ، وقال : ويؤيده قوله في الحديث الآخر : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة . قال : ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له ؛ لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر ، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور فليظن بي عبدي ما شاء قال : وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغرة وهو يجر إلى مذهب المرجئة .

                                                                                                                                                                                                        قوله وأنا معه إذا ذكرني أي بعلمي وهو كقوله إنني معكما أسمع وأرى والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إلى قوله إلا هو معهم أين ما كانوا وقال [ ص: 398 ] ابن أبي جمرة معناه فأنا معه حسب ما قصد من ذكره لي قال : ثم يحتمل أن يكون الذكر باللسان فقط أو بالقلب فقط أو بهما أو بامتثال الأمر واجتناب النهي ، قال والذي يدل عليه الإخبار أن الذكر على نوعين أحدهما مقطوع لصاحبه بما تضمنه هذا الخبر والثاني على خطر ، قال : والأول يستفاد من قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره والثاني من الحديث الذي فيه من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا لكن إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووجل مما هو فيه فإنه يرجى له .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرا ذكرته بالثواب والرحمة سرا . وقال ابن أبي جمرة : يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى فاذكروني أذكركم ومعناه اذكروني بالتعظيم أذكركم بالإنعام وقال تعالى ولذكر الله أكبر أي أكبر العبادات فمن ذكره وهو خائف آمنه أو مستوحش آنسه قال تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وإن ذكرني في ملإ ) بفتح الميم واللام مهموز أي جماعة ذكرته في ملإ خير منهم ، قال بعض أهل العلم : يستفاد منه أن الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري والتقدير : إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب لا أطلع عليه أحدا وإن ذكرني جهرا ذكرته بثواب أطلع عليه الملأ الأعلى وقال ابن بطال : هذا نص في أن الملائكة أفضل من بني آدم وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى ذلك شواهد من القرآن مثل إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين والخالد أفضل من الفاني فالملائكة أفضل من بني آدم وتعقب بأن المعروف عن جمهور أهل السنة أن صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة الفلاسفة ثم المعتزلة وقليل من أهل السنة من أهل التصوف وبعض أهل الظاهر فمنهم من فاضل بين الجنسين فقالوا حقيقة الملك أفضل من حقيقة الإنسان ؛ لأنها نورانية وخيرة ولطيفة مع سعة العلم والقوة وصفاء الجوهر وهذا لا يستلزم تفضيل كل فرد على كل فرد لجواز أن يكون في بعض الأناسي ما في ذلك وزيادة ومنهم من خص الخلاف بصالحي البشر والملائكة ومنهم من خصه بالأنبياء ثم منهم من فضل الملائكة على غير الأنبياء ومنهم من فضلهم على الأنبياء أيضا إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن أدلة تفضيل النبي على الملك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له حتى قال إبليس أرأيتك هذا الذي كرمت علي ومنها قوله تعالى لما خلقت بيدي لما فيه من الإشارة إلى العناية به ولم يثبت ذلك للملائكة ، ومنها قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ومنها قوله تعالى وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض فدخل في عمومه الملائكة ، والمسخر له أفضل من المسخر ؛ ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب ، فكانت عبادتهم أشق ، وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة والاستنباط تارة فكانت أشق ؛ ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين وإلقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر ، ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت والبشر لا يعرفون ذلك إلا بالإعلام فلا يسلم منهم من إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب وحركة الأفلاك إلا الثابت على دينه ولا يتم ذلك إلا بمشقة شديدة ومجاهدات كثيرة ، وأما أدلة الآخرين فقد قيل إن حديث الباب أقوى ما استدل به لذلك للتصريح بقوله فيه في ملإ خير منهم والمراد بهم الملائكة ، حتى قال بعض الغلاة في ذلك وكم من ذاكر لله في ملإ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم الله في ملإ خير منهم ، وأجاب بعض أهل السنة بأن الخبر المذكور ليس نصا ولا صريحا في المراد بل يطرقه احتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر الأنبياء [ ص: 399 ] والشهداء فإنهم أحياء عند ربهم فلم ينحصر ذلك في الملائكة ، وأجاب آخر وهو أقوى من الأول بأن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع وهذا الجواب ظهر لي وظننت أنه مبتكر . ثم رأيته في كلام القاضي كمال الدين بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى فقال : إن الله قابل ذكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه ، وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ فإنما صار الذكر في الملأ الثاني خيرا من الذكر في الأول ؛ لأن الله هو الذاكر فيهم والملأ الذين يذكرون والله فيهم أفضل من الملأ الذين يذكرون وليس الله فيهم ، ومن أدلة المعتزلة تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) وتعقب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل ؛ لأنه لم ينحصر فيه بل له أسباب أخرى كالتقديم بالزمان في مثل قوله ومنك ومن نوح وإبراهيم فقدم نوحا على إبراهيم لتقدم زمان نوح مع أن إبراهيم أفضل ومنها قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون وبالغ الزمخشري فادعى أن دلالتها لهذا المطلوب قطعية بالنسبة لعلم المعاني فقال في قوله تعالى ولا الملائكة المقربون أي ولا من هو أعلى قدرا من المسيح ، وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، قال : ولا يقتضي علم المعاني غير هذا من حيث إن الكلام إنما سيق للرد على النصارى لغلوهم في المسيح ، فقيل لهم : لن يترفع فيه المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع درجة منه انتهى . ملخصا ، وأجيب بأن الترقي لا يستلزم التفضيل المتنازع فيه وإنما هو بحسب المقام ، وذلك أن كلا من الملائكة والمسيح عبد من دون الله ، فرد عليهم بأن المسيح الذي تشاهدونه لم يتكبر عن عبادة الله ، وكذلك من غاب عنكم من الملائكة لا يتكبر ، والنفوس لما غاب عنها أهيب ممن تشاهده ؛ ولأن الصفات التي عبدوا المسيح لأجلها من الزهد في الدنيا والاطلاع على المغيبات وإحياء الموتى بإذن الله موجودة في الملائكة ، فإن كانت توجب عبادته فهي موجبة لعبادتهم بطريق الأولى ، وهم مع ذلك لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى ، ولا يلزم من هذا الترقي ثبوت الأفضلية المتنازع فيها ، وقال البيضاوي احتج بهذا العطف من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، وقال هي مساقة للرد على النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية ، وذلك يقتضي أن يكون المعطوف عليه أعلى درجة منه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه ، وجوابه أن الآية سيقت للرد على عبدة المسيح والملائكة ، فأريد بالعطف المبالغة باعتبار الكثرة دون التفضيل ، كقول القائل أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس ، وعلى تقدير إرادة التفضيل فغايته تفضيل المقربين ممن حول العرش ، بل من هو أعلى رتبة منهم على المسيح ، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا . وقال الطيبي : لا تتم لهم الدلالة إلا إن سلم أن الآية سيقت للرد على النصارى فقط فيصح : لن يترفع المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع منه ، والذي يدعي ذلك يحتاج إلى إثبات أن النصارى تعتقد تفضيل الملائكة على المسيح ، وهم لا يعتقدون ذلك بل يعتقدون فيه الإلهية فلا يتم استدلال من استدل به ، قال وسياقه الآية من أسلوب التتميم والمبالغة لا للترقي ، وذلك أنه قدم قوله إنما الله إله واحد إلى قوله وكيلا ) فقرر الوحدانية والمالكية والقدرة التامة ، ثم أتبعه بعدم الاستنكاف ، فالتقدير لا يستحق من اتصف بذلك أن يستكبر عليه الذي تتخذونه أيها النصارى إلها لاعتقادكم فيه الكمال ولا الملائكة الذين اتخذها غيركم آلهة لاعتقادهم فيهم الكمال . قلت : وقد ذكر ذلك البغوي ملخصا ، ولفظه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام عيسى بل ردا على الذين يدعون أن الملائكة آلهة فرد عليهم كما رد على النصارى الذين يدعون التثليث ، ومنها قوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ ص: 400 ] فنفى أن يكون ملكا ، فدل على أنهم أفضل ، وتعقب بأنه إنما نفى ذلك لكونهم طلبوا منه الخزائن وعلم الغيب ، وأن يكون بصفة الملك من ترك الأكل والشرب والجماع ، وهو من نمط إنكارهم أن يرسل الله بشرا مثلهم فنفى عنه أنه ملك ، ولا يستلزم ذلك التفضيل ، ومنها أنه سبحانه لما وصف جبريل ومحمدا ، قال في جبريل إنه لقول رسول كريم وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم وما صاحبكم بمجنون وبين الوصفين بون بعيد ، وتعقب بأن ذلك إنما سيق للرد على من زعم أن الذي يأتيه - شيطان فكان وصف جبريل بذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع بمثل ما وصف به جبريل هنا وأعظم منه ، وقد أفرط الزمخشري في سوء الأدب هنا ، وقال كلاما يستلزم تنقيص المقام المحمدي ، وبالغ الأئمة في الرد عليه في ذلك وهو من زلاته الشنيعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : وإن تقرب إلي شبرا ) في رواية المستملي والسرخسي " بشبر " بزيادة موحدة في أوله ، وسيأتي شرحه في أواخر " كتاب التوحيد " في باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية