الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( البشارة الثامنة عشرة )

                          هذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا وأنا أنقلها عن التراجم العربية المطبوعة سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 في بلدة لندن فأقول : في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( 15 إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي 16 وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد 17 روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم 26 والفارقليط روح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم 30 والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون ( وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( 26 فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق فهو يشهد لأجلي 27 وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء ) وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( 7 لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط ، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم 8 فإذا جاء ذاك يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم ( 9 أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي 10 وأما على البر ، فلأني منطلق إلى الأب ، ولستم ترونني بعد 11 وأما على الحكم فأن أكون ( رئيس ) هذا العالم قد دين 12 وإن لي كلاما كثيرا أقوله لكم ، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن 13 وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي 14 وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم 15 جميع ما هو للأب فهو لي فمن أجل هذا قلت إن مما هو لي يأخذ ويخبركم ) .

                          وأنا أقدم قبل بيان وجه الاستدلال بهذه العبارات أمرين : ( الأمر الأول ) أنك قد عرفت في الأمر السابع أن أهل الكتاب سلفا وخلفا عادتهم أن يترجموا غالبا الأسماء ( أي الأعلام ) ، وأن عيسى - عليه السلام - كان يتكلم باللسان العبراني لا باليوناني ، فإذا لا يبقى شك في أن الإنجيل الرابع ترجم اسم المبشر به باليوناني بحسب عادتهم ثم مترجمو العربية عربوا اللفظ بفارقليط ، وقد وصلت إلي رسالة صغيرة بلسان [ ص: 238 ] " أردو " من رسائل القسيسين في سنة ألف ومائتين وثمانية وستين من الهجرة وكانت هذه الرسائل طبعت في " كلكته " وكانت في تحقيق لفظ ( فارقليط ) وادعى مؤلفها أن مقصوده أن ينبه المسلمين على سبب وقوعهم في الغلط من لفظ فارقليط ، وكان ملخص كلامه أن هذا اللفظ معرب من اللفظ اليوناني " فإن قلنا : إن هذا اللفظ اليوناني الأصل باراكلي طوس فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل ، وإن قلنا : إن اللفظ الأصل بيركلوطوس يكون قريبا من معنى محمد وأحمد ، فمن استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل بيركلوطوس ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد فادعى أن عيسى - عليه السلام - أخبر بمحمد أو أحمد ، لكن الصحيح أنه بار كلي طوس " انتهى ملخصا من كلامه .

                          ( يقول محمد رشيد مؤلف هذا التفسير ) : إنني أوضح هنا ما كتبه الشيخ رحمة الله بكلمة للدكتور محمد توفيق صدقي أوردها في هذا المقام في كتابه ( دين الله في كتب أنبيائه ) قال رحمه الله : هذا اللفظ ( الفارقليط ) يوناني ويكتب بالإنكليزية هكذا ( paraclete ) بارقليط أي ( المعزي ) ويتضمن أيضا معنى ( المحاج ) كما قال بوست في قاموسه ، وهاك لفظا آخر يكتب هكذا ( periclite ) ومعناه رفيع المقام . سام . جليل . مجيد . شهير . وهي كلها معان تقرب من معنى محمد وأحمد ومحمود .

                          ولا يخفى أن المسيح كان يتكلم بالعبرية فلا ندري ماذا كان اللفظ الذي نطق به - عليه السلام - ؟ ولا ندري إن كانت ترجمة مؤلف هذا الإنجيل له بلفظ ( paraclete ) صحيحة أو خطأ ؟ ولا ندري إن كان هذا اللفظ ( paraclete ) هو الذي ترجم به من قبل أم لا ؟ لأننا نعلم أن كثيرا من الألفاظ والعبارات وقع فيها التحريف من الكتاب سهوا أو قصدا ، كما اعترفوا به في جميع كتب العهدين ( راجع الفصل الثالث ) فإذا كان اللفظ الأصلي ( periclite ) بيرقليط فلا يبعد أنه تحرف عمدا أو سهوا إلى ( paraclete ) بارقليط حتى يبعدوه عن معنى اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومما يسهل عليهم ذلك تشابه أحرف هذه الكلمة في اللغة اليونانية .

                          وعلى كل حال فسواء كان هو ( paraclete ) بارقليط أو ( periclite ) بيرقليط ، فمعنى كل منهما ينطبق على محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو معز للمؤمنين على عدم إيمان الكافرين ، وعلى وجود الشر في هذا العالم بإيضاح أن هذه هي إرادة الله لحكمة يعلمها هو ، ومعز أيضا للمصابين والمرضى والفقراء وغيرهم بعقيدة البعث والقيامة ، وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يحاج الكفار والمشركين وغيرهم .

                          [ ص: 239 ] ( إذا كان معناها المحاج المجادل كما قال بوست ) وهو شهير سام جليل مجيد إذا كان اللفظ الأصلي ( بيرقليط ) والعبارات الواردة في إنجيل يوحنا في هذه المسألة لا تنطبق إلا على محمد - صلى الله عليه وسلم - كما بين ذلك صاحب كتاب إظهار الحق ومؤلف كتاب ( فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام ) وكما أشرنا إلى ذلك في صفحة 82 من هذا الكتاب اهـ . ونعود إلى سياق صاحب إظهار الحق الشيخ رحمة الله ، قال رحمه الله .

                          وأقول : إن التفاوت بين اللفظين يسير جدا ، وإن الحروف اليونانية كانت متشابهة ، فتبدل بيركلوطوس بباراكلي طوس في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس ، ثم رجح أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الأخر ، ومن تأمل في الباب الثاني من هذا الكتاب . والأمر السابع من هذا المسلك السادس بنظر الإنصاف اعتقد يقينا بأن مثل هذا الأمر من أهل الديانة من أهل التثليث ليس ببعيد بل لا يبعد أن يكون من المحسنات .

                          ( والأمر الثاني ) أن البعض ادعوا قبل ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم مصاديق لفظ فارقليط ، مثلا منتنس المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد ، وكان مرتاضا شديد الارتياض وأتقى أهل عهده : ادعى في قرب سنة 177 من الميلاد في آسيا الصغرى الرسالة ، وقال : إني الفارقليط الذي وعد بمجيئه عيسى - عليه السلام - ، وتبعه أناس كثيرون في ذلك كما هو مذكور في بعض التواريخ ، وذكر وليم ميور حاله وحال متبعيه في القسم الثاني من الباب الثالث من تاريخه بلسان أردو المطبوع سنة 1848 من الميلاد هكذا : إن البعض قالوا إنه ادعى أنه الفارقليط يعني المعزي روح القدس ، وهو كان أتقى ( ؟ ) ومرتاضا شديدا ( ؟ ) ولأجل ذلك قبله الناس قبولا زائدا ، انتهى كلامه .

                          فعلم أن انتظار الفارقليط كان في القرون الأولى المسيحية أيضا ولذلك كان الناس يدعون أنهم مصاديقه ، وكان المسيحيون يقبلون دعاويهم . وقال صاحب لب التواريخ : إن اليهود والمسيحيين من معاصري محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا منتظرين لنبي ، فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم ؛ لأنه ادعى أنه هو ذاك المنتظر ، انتهى ملخص كلامه . فيعلم من كلامه أيضا أنأهل الكتاب كانوا منتظرين لخروج نبي في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الحق ؛ لأن النجاشي ملك الحبشة لما وصل إليه كتاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قال : أشهد بالله أنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وكتب الجواب وكتب في الجواب : أشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك - أي جعفر بن أبي طالب - وأسلمت على يديه لله رب العالمين اهـ . وهذا النجاشي كان قبل الإسلام نصرانيا .

                          [ ص: 240 ] وكتب المقوقس ملك القبط في جواب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا : ( إلى محمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ، وقد علمت أن نبيا قد بقي ، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك ، اهـ . والمقوقس هذا وإن لم يسلم لكنه أقر في كتابه : أني قد علمت أن نبيا قد بقي ، وكان نصرانيا فهذان الملكان ما كانا يخافان في ذلك الوقت من محمد - صلى الله عليه وسلم - لأجل شوكته الدنيوية .

                          وجاء الجارود بن العلاء في قومه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فقال : والله لقد جئت بالحق ، ونطقت الصدق ، والذي بعثك بالحق نبيا لقد وجدت وصفك في الإنجيل ، وبشر بك ابن البتول ، فطول التحية لك ، والشكر لمن أكرمك ، لا أثر بعد عين ، ولا شك بعد يقين ، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ثم آمن قومه
                          ، وهذا الجارود كان من علماء النصارى ، وقد أقر بأنه قد بشر به ابن البتول أي عيسى - عليه السلام - ، فظهر أن المسيحيين أيضا كانوا منتظرين لخروج نبي بشر به عيسى - عليه السلام - .

                          فإذا علمت ذلك فأقول : إن اللفظ العبراني الذي قاله عيسى - عليه السلام - مفقود ، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة لكني أترك البحث عن الأصل ، وأتكلم على هذا اللفظ اليوناني فأقول : إن كان اللفظ اليوناني الأصل بيركلوطوس ، فالأمر ظاهر وتكون بشارة المسيح في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - بلفظ هو قريب من محمد وأحمد وهذا وإن كان قريب القياس بالنظر إلى عاداتهم لكني أترك هذا الاحتمال ؛ لأنه لا يتم عليه إلزاما ، وأقول : إن كان اللفظ اليوناني الأصل باراكلي طوس كما يدعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضا ؛ لأن معناه المعزي والمعين والوكيل على ما بين صاحب الرسالة أو الشافع كما يوجد في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وهذه المعاني كلها تصدق على محمد - صلى الله عليه وسلم - .

                          وأنا أبين الآن أن المراد بالفارقليط النبي المبشر به أعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا الروح النازل على تلاميذ عيسى - عليه السلام - يوم الدار الذي جاء ذكره في الباب الثاني من كتاب الأعمال ، وأذكر ثانيا شبهات علماء المسيحية ، وأجيب عنها فأقول : أما الأول فيدل عليه أمور : ( 1 ) إن عيسى - عليه السلام - قال أولا ( إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ) ثم أخبر عن الفارقليط . فمقصوده - عليه السلام - أن يعتقد السامعون بأن ما يلقى عليهم بعد ضروري واجب الرعاية ، فلو كان الفارقليط عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كانت الحاجة إلى هذه الفقرة ؛ لأنه ما كان مظنونا أن يستبعد الحواريون نزول الروح عليهم مرة أخرى [ ص: 241 ] لأنهم كانوا مستفيضين منه من قبل أيضا ، بل لا مجال للاستبعاد أيضا ، لأنه إذا نزل على قلب أحد ، وحل فيه يظهر أثره لا محالة ظهورا بينا فلا يتصور إنكار المتأثر منه ، وليس ظهوره عندهم في صورة يكون فيه مظنة يكون الاستبعاد فهو عبارة عن النبي المبشر به . حقيقة الأمر أن المسيح - عليه السلام - لما علم بالتجربة وبنور النبوة أن الكثيرين من أمته ينكرون النبي المبشر به عند ظهوره أكده أولا بهذه الفقرة ثم أخبر عن مجيئه .

                          ( 2 ) إن هذا الروح متحد بالأب مطلقا وبالابن نظرا إلى هوته اتحادا حقيقيا فلا يصدق في حقه ( فارقليط آخر ) بخلاف النبي المبشر به فإنه يصدق هذا القول في حقه بلا تكلف .

                          ( 3 ) إن الوكالة والشفاعة من خواص النبوة لا من خواص هذه الروح المتحد بالله فلا يصدقان على الروح ، ويصدقان على النبي المبشر به بلا تكلف .

                          ( 4 ) إن عيسى - عليه السلام - قال : ( هو يذكركم كل ما قلته لكم ) ولم يثبت في رسالة من رسائل العهد الجديد أن الحواريين كانوا قد نسوا ما قاله عيسى - عليه السلام - ، وهذا الروح النازل يوم الدار ذكرهم إياه .

                          ( 5 ) إن عيسى - عليه السلام - قال : ( والآن قد قلت لكم قبل أن يكون ( أن يوجد ) حتى إذا كان - أي وجد وبعث - تؤمنون ) وهذا يدل على أن المراد به ليس الروح ؛ لأنك قد عرفت في الأمر أنه ما كان عدم الإيمان مظنونا منهم وقت نزوله بل لا مجال للاستبعاد أيضا ، فلا حاجة إلى هذا القول ، وليس من شأن الحكيم العاقل أن يتكلم بكلام فضول ، فضلا عن شأن النبي العظيم الشأن ، فلو أردنا به النبي المبشر به يكون هذا الكلام في محله ، وفي غاية الاستحسان لأجل التأكيد مرة ثانية .

                          ( 6 ) إن عيسى - عليه السلام - قال : ( هو يشهد لأجلي ) . وهذا الروح ما شهد لأجله بين أيدي أحد ؛ لأن تلاميذه الذين نزل عليهم ما كانوا محتاجين إلى الشهادة ؛ لأنهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة قبل نزوله أيضا فلا فائدة للشهادة بين أيديهم ، والمنكرون هم الذين كانوا محتاجين للشهادة فهذا الروح ما شهد بين أيديهم بخلاف محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه شهد لأجل المسيح - عليه السلام - وصدقه وبرأه عن ادعاء الألوهية الذي هو أشد أنواع الكفر والضلال ، وبرأ أمه عن تهمة الزنا ، وجاء ذكر براءتهما في القرآن في مواضع متعددة ، وفي الأحاديث في مواضع غير محصورة .

                          [ ص: 242 ] ( 7 ) إن عيسى - عليه السلام - ( قال وأنتم تشهدون ؛ لأنكم معي من الابتداء ) وهذه الآية في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 هكذا ) وتشهدون أنتم أيضا ؛ لأنكم كنتم معي من الابتداء ) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا ( وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء ( فيوجد في هذه التراجم الثلاث لفظ أيضا وكذا يوجد في التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 ترجمة لفظ أيضا ، فلفظ " أيضا " سقط من التراجم التي نقلت عنها عبارة يوحنا سهوا أو قصدا فهذا القول يدل دلالة ظاهرة على أن شهادة الحواريين غير شهادة الفارقليط ، فلو كان المراد به الروح النازل يوم الدار لم توجد مغايرة بين الشهادتين ؛ لأن الروح المذكور لم يشهد شهادة مستقلة غير شهادة الحواريين بل شهادة الحواريين هي شهادته بعينها ؛ لأن هذا الروح مع كونه إلها متحدا بالله اتحادا حقيقيا بريا من النزول والحلول والاستقرار والشكل - التي هي من عوارض الجسم والجسمانيات - نزل مثل ريح عاصفة ، وظهر في أشكال ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم يوم الدار فكان حالهم كحال من عليه أثر الجن ، فكما أن قول الجن يكون قوله في تلك الحالة فكذلك كانت شهادة الروح هي شهادة الحواريين ، فلا يصح هذا القول بخلاف ما إذا كان المراد به النبي المبشر به فإن شهادته غير شهادة الحواريين .

                          ( 8 ) إن عيسى - عليه السلام - قال : إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم ( فعلق مجيئه بذهابه وهذا الروح عندهم نزل على الحواريين في حضوره لما أرسلهم إلى البلاد الإسرائيلية فنزوله ليس بمشروط بذهابه فلا يكون مرادا بالفارقليط ، بل المراد به شخص لم يستفض منه أحد من الحواريين قبل زمان صعوده ، وكان مجيئه موقوفا على ذهاب عيسى - عليه السلام - ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كان كذلك ؛ لأنه جاء بعد ذهاب عيسى - عليه السلام - ، وكان مجيئه موقوفا على ذهاب عيسى - عليه السلام - ؛ لأن وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلتين في زمان واحد غير جائز ، بخلاف ما إذا كان الآخر متبعا لشريعة الأول أو يكون كل من الرسل متبعا لشريعة واحدة ؛ لأنه يجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان واحد ومكان واحد كما ثبت وجودهم ما بين زمان موسى - عليه السلام - وعيسى - عليه السلام - .

                          ( 9 ) إن عيسى - عليه السلام - قال : ( يوبخ العالم ) فهذا القول بمنزلة النص الجلي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه وبخ العالم سيما اليهود على عدم إيمانهم بعيسى - عليه السلام - توبيخا لا يشك فيه إلا معاند بحت ، وسيكون ابنه الرشيد محمد المهدي رفيقا لعيسى - عليه السلام - في زمان قتل الدجال الأعور ومتابعيه ، بخلاف الروح النازل يوم الدار ، فإن توبيخه لا يصح على أصول أحد ، وما كان التوبيخ منصب الحواريين بعد نزوله أيضا ؛ لأنهم كانوا يدعون إلى الملة بالترغيب [ ص: 243 ] والوعظ . وما قال رانكين في كتابه المسمى بدافع البهتان الذي هو بلسان أردو في رده على خلاصة ( صولة الضيغم ) : إن لفظ التوبيخ لا يوجد في الإنجيل ، ولا في ترجمة من تراجم الإنجيل ، وهذا المستدل أورد هذا اللفظ ليصدق على محمد صدقا بينا ؛ لأجل أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - وبخ وهدد كثيرا ، إلا أن مثل هذا التغليظ ليس من شأن المؤمنين والخائفين من الله - انتهى كلامه - فمردود ، وهذا القسيس إما جاهل غالط أو مغالط ليس له إيمان ولا خوف من الله ؛ لأن هذا اللفظ يوجد في التراجم العربية المذكورة التي نقلت عنها عبارة يوحنا ، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1671 في رومية العظمى ، وعبارة الترجمة العربية المطبوعة في بيروت سنة 1860 هكذا ( ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية ) إلخ . وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825 ، وفي التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 يوجد لفظ الإلزام . ولفظ التبكيت والإلزام أيضا قريبان من التوبيخ لكن لا شكاية منه ؛ لأن مثل هذا الأمر من عادات علماء بروتستنت ، ولذلك ترى أن مترجمي الفارسية وأردو تركوا لفظ فارقليط لشهرته عند المسلمين في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - ومترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1839 فاق أسلافه هؤلاء أيضا حيث أرجع إلى الروح ضمائر المؤنث ليحصل الاشتباه للعوام أن مصداق هذا اللفظ ( أي مدلوله ) مؤنث وليس بمذكر .

                          ( 10 ) قال عيسى - عليه السلام - ( أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي ) وهذا يدل على أن الفارقليط يكون ظاهرا على منكريعيسى - عليه السلام - موبخا لهم على عدم الإيمان به ، والروح النازل يوم الدار ما كان ظاهرا على الناس موبخا لهم .

                          ( 11 ) قال عيسى - عليه السلام - ( إن لي كلاما كثيرا أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن ( وهذا ينافي إرادة الروح النازل يوم الدار ؛ لأنه ما زاد على أحكام عيسى - عليه السلام - ، فإنه على زعم أهل التثليث كان أمر الحواريين بعقيدة التثليث ، وبدعوة أهل العالم كله ، فأي أمر حصل لهم أزيد من أقواله التي قالها إلى زمان صعوده ، نعم إنهم بعد نزول هذا الروح أسقطوا جميع أحكام التوراة التي هي ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج ، وحللوا جميع المحرمات ، وهذا الأمر لا يجوز في شأنه أن يقال : إنهم ما كانوا يستطيعون حمله ؛ لأنهم استطاعوا حمل سقوط حكم تعظيم السبت الذي هو أعظم أحكام التوراة . وكاناليهود ينكرون كون عيسى - عليه السلام - مسيحا موعودا به لأجل عدم مراعاته هذا الحكم ، فقبول سقوط جميع الأحكام كان أهون عندهم ، نعم قبول زيادة الأحكام لأجل ضعف الإيمان وضعف القوة إلى زمان صعوده كما يعترف به علماء بروتستنت كان خارجا عن استطاعتهم فظهر أن المراد بالفارقليط نبي تزاد في شريعته [ ص: 244 ] أحكام ، ويثقل حملها على المكلفين الضعفاء ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى الشريعة العيسوية .

                          ( 12 ) إن عيسى - عليه السلام - قال : ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بكل ما يسمع ، وهذا يدل على أن الفارقليط يكون بحيث يكذبه بنو إسرائيل ، فاحتاج عيسى - عليه السلام - أن يقرر حال صدقه فقال هذا القول ، ولا مجال لمظنة التكذيب في حق الروح النازل يوم الدار على أن هذا الروح عندهم عين الله ، فلا معنى لقوله: بل يتكلم بما يسمع فمصداقه محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان في حقه مظنة التكذيب ، وليس هو عين الله ، وكان يتكلم بما يوحى إليه كما قال تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( 53: 3 ، 4 ) وقال إن أتبع إلا ما يوحى إلي ( 6 :50 ) .

                          ( 13 ) إن عيسى - عليه السلام - قال: إنه يأخذ مما هو لي ، وهذا لا يصدق على الروح ؛ لأنه عند أهل التثليث قديم وغير مخلوق ، وقادر مطلق ، ليس له كمال منتظر ، بل كل كمال من كمالاته حاصل له بالفعل ، فلا بد أن يكون الموعود به من الجنس الذي يكون له كمال منتظر ، ولما كان هذا الكلام موهما أن يكون هذا النبي متبعا لشريعته دفعه بقوله فيما بعد : ( جميع ما للأب فهو لي فلأجل هذا قلت مما هو لي يأخذ ) يعني أن كل شيء يحصل للفارقليط من الله فكأنه يحصل مني كما اشتهر : من كان لله كان الله له - فلأجل هذا قلت : إن مما هو لي يأخذ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية