الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث السادس:

                                831 869 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أنا مالك ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: لو أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء [بعده] لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل.

                                قلت لعمرة: أومنعن؟ قالت: نعم.

                                التالي السابق


                                تشير عائشة -رضي الله عنها- إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرخص في بعض ما يرخص فيه حيث لم يكن في زمنه فساد، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده، فلو أدرك ما حدث بعده لما استمر على الرخصة، بل نهى عنه؛ فإنه إنما يأمر بالصلاح، وينهى عن الفساد.

                                [ ص: 309 ] وشبيه بهذا: ما كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وعمر من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمار، حتى كان عمر يضرب الأمة إذا رآها منتقبة أو مستترة، وذلك لغلبة السلامة في ذلك الزمان، ثم زال ذلك وظهر الفساد وانتشر، فلا يرخص حينئذ فيما كانوا يرخصون فيه.

                                فقد اختلف العلماء في حضور النساء مساجد الجماعات للصلاة مع الرجال: فمنهم من كرهه بكل حال، وهو ظاهر المروي عن عائشة -رضي الله عنها- وقد استدلت بأن الرخصة كانت لهن حيث لم يظهر منهن ما ظهر، فكانت لمعنى وقد زال ذلك المعنى.

                                قال الإمام أحمد : أكره خروجهن في هذا الزمان؛ لأنهن فتنة.

                                وعن أبي حنيفة رواية: لا يخرجن إلا للعيدين خاصة.

                                وروى أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، قال: حق على كل ذات نطاق أن تخرج للعيدين. ولم يكن يرخص لهن في شيء من الخروج إلا في العيدين.

                                ومنهم من رخص فيه للعجائز دون الشواب، وهو قول مالك - في رواية - والشافعي وأبي يوسف ومحمد ، وطائفة من أصحابنا أو أكثرهم.

                                حكاه ابن عبد البر ، عن العلماء، وحكاه، عن مالك من رواية أشهب : أن العجوز تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد، وأن الشابة تخرج مرة بعد مرة.

                                وقال ابن مسعود : ما صلت امرأة صلاة أفضل من صلاتها في بيتها، إلا أن تصلي عند المسجد الحرام، إلا عجوزا في منقلها.

                                خرجه وكيع وأبو عبيد .

                                وقال: يعني: خفها.

                                [ ص: 310 ] وخرجه البيهقي ، وعنده: إلا في مسجد الحرام ، أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.

                                ومنهم من رخص فيه للجمع، إذا أمنت الفتنة، وهو قول مالك - في رواية ابن القاسم ، ولم يذكر في " المدونة " سواه - وقول طائفة من أصحابنا المتأخرين.

                                ثم اختلفوا: هل يرخص لهن في الليل والنهار، أم في الليل خاصة؟ على قولين.

                                أحدهما: يرخص لهن في كل الصلوات، وهو المحكي عن مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد ، وقول أصحابنا.

                                واستدلوا بعموم الأحاديث المطلقة، وبخروجهن في العيدين، فأما المقيدة بالليل، فقالوا: هو تنبيه على النهار من طريق الفحوى؛ لأن تمكن الفساق من الخلوة بالنساء والتعرض لهن بالليل أظهر، فإذا جاز لهن الخروج بالليل ففي النهار أولى.

                                وقالت طائفة: إنما يرخص لهن في الليل، وتبويب البخاري يدل عليه، وروي مثله عن أبي حنيفة ، لكنه خصه بالعجائز.

                                وكذا قال سفيان : يرخص لهن في العشاء والفجر. قال: وينهى عن حضورهن تراويح رمضان.

                                ومذهب إسحاق كأبي حنيفة والثوري في ذلك، إلا أنه رخص لهن في حضور التراويح في رمضان.

                                وهؤلاء استدلوا بالأحاديث المقيدة بالليل، وقالوا: النهار يكثر انتشار [ ص: 311 ] الفساق فيه، فأما الليل فظلمته مع الاستتار تمنع النظر غالبا، فهو أستر.

                                وروي عن أحمد ما يدل على أنه يكره للمرأة أن تصلي خلف رجل صلاة جهرية.

                                وهذا عكس قول من رخص في خروج المرأة إلى المسجد بالليل دون النهار.

                                قال مهنا : قال أحمد : لا يعجبني أن يؤم الرجل النساء، إلا أن يكون في بيته، يؤم أهل بيته، أكره أن تسمع المرأة صوت الرجل.

                                وهذه الرواية مبنية -والله أعلم- على قول أحمد : إن المرأة لا تنظر إلى الرجل الأجنبي، فيكون سماعها صوته كنظرها إليه، كما أن سماع الرجل صوت المرأة مكروه كنظره إليها؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة.

                                وإن صلى الرجل بنساء لا رجل معهن، فإن كن محارم له أو بعضهن جاز، وإن كن أجنبيات فإنه يكره.

                                وإنما يكره إذا كان في بيت ونحوه، فأما في المسجد فلا يكره؛ لا سيما إن كان فيه رجال لا يصلون معهم.

                                فقد روي أن عمر -رضي الله عنه- جعل للنساء في قيام رمضان إماما يقوم بهن على حدة، كما جعل للرجال إماما.

                                وأما في بيت ونحوه فيكره؛ لما فيه من الخلوة.

                                فإن كان امرأة واحدة، فهو محرم، وإن كان امرأتان فهل يمنع ذلك الخلوة؟ فيه لأصحابنا وجهان.

                                [ ص: 312 ] ومتى كثر النساء فلا يحرم، بل يكره.

                                ومن أصحابنا من علل الكراهة بخشية مخالطة الوسواس له في صلاته.

                                ومذهب الشافعي : إن صلى بامرأتين أجنبيتين فصاعدا خاليا بهن فطريقان، قطع جمهورهم بالجواز. والثاني: في تحريمه وجهان.

                                وقيل: إن الشافعي نص على تحريم أن يؤم الرجل نساء منفردات، إلا أن يكون فيهن محرم له، أو زوجة، وإن خلا رجلان أو رجال، فالمشهور عندهم تحريمه.

                                وقيل: إن كانوا ممن يبعد مواطأتهم على الفاحشة جاز.

                                فإن صلى بهن في حال يكره، كرهت الصلاة وصحت، وإن كان في حال تحريم، فمن أصحابنا من جزم ببطلان صلاتهما.

                                وكره طائفة من السلف أن يصلي الرجل بالنساء الأجنبيات وليس خلفه صف من الرجال، منهم: الجزري .

                                وكذلك قال الإمام أحمد - في رواية الميموني -: إذا كان خلفه صف رجال صلى خلفه النساء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بأنس واليتيم وأم سليم وراءهم. قيل له: فإن لم يكن رجال، كانوا نساء؟ قال: هذه مسألة مشتبهة. قيل له: فصلاتهم جائزة؟ قال: أما صلاته فهي جائزة. قيل له: فصلاة النساء؟ قال: هذه مسألة مشتبهة.

                                فتوقف في صحة صلاتهن دونه.



                                الخدمات العلمية