الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 488 ] ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر خلافة المعتز بالله ابن المتوكل على الله بعد خلع المستعين نفسه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت هذه السنة وقد استقرت الخلافة باسم أبي عبد الله المعتز محمد بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور ، وقيل : إن اسم المعتز أحمد . وقيل : الزبير . وهو الذي عول عليه الحافظ ابن عساكر وترجمه في " تاريخه " . فلما خلع المستعين - أحمد بن محمد المعتصم - نفسه من الخلافة وبايع للمعتز ، دعا الخطباء يوم الجمعة رابع المحرم من هذه السنة بجوامع بغداد على المنابر للخليفة المعتز بالله . وانتقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل هو وعياله وولده وجواريه ، ووكل بهم سعيد بن رجاء في جماعة معه ، وأخذ من المستعين البردة والقضيب والخاتم ، وبعث بذلك إلى المعتز ، ثم أرسل إليه المعتز يطلب منه خاتمين من جوهر ثمين بقيا عنده يقال لأحدهما : برج . وللآخر : جبل . فأرسلهما . وطلب [ ص: 489 ] المستعين أن يسير إلى مكة فلم يمكن ، فطلب البصرة فقيل له : إنها وبيئة . فقال : إن ترك الخلافة أوبأ منها . ثم أذن له في المسير إلى واسط فخرج ومعه حرس يوصلونه إليها نحو من أربعمائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل ، وخلع عليه ، وألبسه تاجا على رأسه . ولما تمهد أمر بغداد واستقرت البيعة للمعتز بها ، ودان له أهلها واجتمع شملها ، وقدمتها الميرة من كل جانب ، واتسع الناس في الأرزاق والأطعمة ، ركب أبو أحمد منها في يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم إلى سامرا ، وشيعه محمد بن عبد الله بن طاهر في وجوه القواد ، فخلع أبو أحمد على ابن طاهر خمس خلع وسيفا ، ورده من الروذبار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر ابن جرير مدائح الشعراء في المعتز وتشفيهم بخلع المستعين ، فأكثر من ذلك جدا . فمن ذلك قول محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان في مدح المعتز وذم المستعين كما جرت به عادة الشعراء :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن الأمور إلى المعتز قد رجعت والمستعين إلى حالاته رجعا     وكان يعلم أن الملك ليس له
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنه لك لكن نفسه خدعا     ومالك الملك مؤتيه ونازعه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      آتاك ملكا ومنه الملك قد نزعا     إن الخلافة كانت لا تلائمه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كانت كذات حليل زوجت متعا [ ص: 490 ]     ما كان أقبح عند الناس بيعته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان أحسن قول الناس قد خلعا     ليت السفين إلى قاف دفعن به
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نفسي الفداء لملاح به دفعا     كم ساس قبلك أمر الناس من ملك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لو كان حمل ما حملته ظلعا     أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والله يجعل بعد الضيق متسعا     والله يدفع عنك السوء من ملك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإنه بك عنا السوء قد دفعا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكتب أمير المؤمنين المعتز من سامرا إلى نائب بغداد محمد بن عبد الله بن طاهر أن يسقط اسم وصيف وبغا ومن كان في رسمهما في الدواوين ، وعزم على قتلهما ، ثم استرضي عنهما ، فرضي عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه إبراهيم الملقب بالمؤيد من ولاية العهد وحبسه ، وأخاه أبا أحمد ، بعدما ضرب المؤيد أربعين مقرعة . ولما كان يوم الجمعة سابعه خطب بخلعه ، وأمره أن يكتب كتابا على نفسه بذلك . وكانت وفاته بعد ذلك بخمسة عشر يوما ، فقيل : إنه أدرج في لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات غما . وقيل : بل ضرب بحجارة من ثلج حتى مات بردا . وبعد ذلك كله أخرج من السجن ولا أثر به ، فأحضر القضاة والأعيان فأشهدوا على موته من غير سبب وليس به أثر ، ثم حمل على حمار ومعه [ ص: 491 ] كفنه ، فأرسل به إلى أمه فدفنته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية