الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان [ ص: 97 ] ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان { ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون } . وأكثر المتكلمين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ; لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين فيصير الكافر مسلما مبتدعا وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة وقد ذكرنا فيما تقدم أصناف البدع . ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج ; فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون عليا ومنهم من يفضله على أبي بكر وعمر ; ولكن حكي عن بعض متقدميهم أنه قال : فسق يوم الجمل إحدى الطائفتين ولا أعلم عينها . وقالوا إنه قال : لو شهد علي والزبير لم أقبل شهادتهما لفسق أحدهما لا بعينه ولو شهد علي مع آخر ففي قبول شهادته قولان وهذا القول شاذ فيهم والذي عليه عامتهم تعظيم علي . ومن المشهور عندهم ذم معاوية وأبي موسى وعمرو بن العاص لأجل علي ومنهم من يكفر هؤلاء ويفسقهم ; بخلاف طلحة والزبير [ ص: 98 ] وعائشة فإنهم يقولون : إن هؤلاء تابوا من قتاله وكلهم يتولى عثمان ويعظمون أبا بكر وعمر ويعظمون الذنوب فهم يتحرون الصدق كالخوارج لا يختلقون الكذب كالرافضة ولا يرون أيضا اتخاذ دار غير دار الإسلام كالخوارج ولهم كتب في تفسير القرآن ونصر الرسول ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض وهم قصدهم إثبات توحيد الله ورحمته وحكمته وصدقه وطاعته وأصولهم الخمس عن هذه الصفات الخمس ; لكنهم غلطوا في بعض ما قالوه في كل واحد من أصولهم الخمس فجعلوا من " التوحيد " نفي الصفات وإنكار الرؤية والقول بأن القرآن مخلوق فوافقوا في ذلك الجهمية وجعلوا من " العدل " أنه لا يشاء ما يكون ويكون ما لا يشاء وأنه لم يخلق أفعال العباد فنفوا قدرته ومشيئته وخلقه لإثبات العدل وجعلوا من الرحمة نفي أمور خلقها لم يعرفوا ما فيها من الحكمة .

                وكذلك هم والخوارج قالوا بـ " إنفاذ الوعيد " ليثبتوا أن الرب صادق لا يكذب ; إذ كان عندهم قد أخبر بالوعيد العام فمتى لم يقل بذلك لزم كذبه وغلطوا في فهم الوعيد . وكذلك " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف " قصدوا به طاعة الله ورسوله كما يقصده الخوارج والزيدية فغلطوا في ذلك . وكذلك إنكارهم للخوارق غير المعجزات قصدوا به إثبات النبوة [ ص: 99 ] ونصرها وغلطوا فيما سلكوه فإن النصر لا يكون بتكذيب الحق وذلك لكونهم لم يحققوا خاصة آيات الأنبياء . والأشعرية ما ردوه من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم وبينوا ما بينوه من تناقضهم وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة فحصل بما قالوه من بيان تناقض أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير . فإن الأشعري كان من المعتزلة وبقي على مذهبهم أربعين سنة يقرأ على أبي علي الجبائي فلما انتقل عن مذهبهم كان خبيرا بأصولهم وبالرد عليهم وبيان تناقضهم وأما ما بقي عليه من السنة فليس هو من خصائص المعتزلة بل هو من القدر المشترك بينهم وبين الجهمية وأما خصائص المعتزلة فلم يوالهم الأشعري في شيء منها ; بل ناقضهم في جميع أصولهم ومال في " مسائل العدل والأسماء والأحكام " إلى مذهب جهم ونحوه . وكثير من الطوائف " كالنجارية " أتباع حسين النجار و " الضرارية " أتباع ضرار بن عمرو يخالفون المعتزلة في القدر والأسماء والأحكام وإنفاذ الوعيد . والمعتزلة من أبعد الناس عن طريق أهل الكشف والخوارق والصوفية يذمونها ويعيبونها . [ ص: 100 ] وكذلك يبالغون في ذم النصارى أكثر مما يبالغون في ذم اليهود وهم إلى اليهود أقرب كما أن الصوفية ونحوهم إلى النصارى أقرب ; فإن النصارى عندهم عبادة وزهد وأخلاق بلا معرفة ولا بصيرة فهم ضالون واليهود عندهم علم ونظر بلا قصد صالح ولا عبادة ولا زهد ولا أخلاق كريمة فهم مغضوب عليهم والنصارى ضالون .

                قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم : ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين . وروى بإسناده عن أبي روق عن ابن عباس وغير طريق الضالين وهم النصارى الذين أضلهم الله بفريتهم عليه يقول : فألهمنا دينك الحق - وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له - حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود ولا تضلنا كما أضللت النصارى فتعذبنا كما تعذبهم يقول : امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك ورأفتك وقدرتك . قال ابن أبي حاتم : ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين وقد قال سفيان بن عيينة : كانوا يقولون : من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد [ من ] عبادنا ففيه شبه من النصارى . فأهل الكلام أصل أمرهم هو النظر في العلم ودليله فيعظمون العلم وطريقه وهو الدليل والسلوك في طريقه وهو النظر . وأهل الزهد يعظمون الإرادة والمريد وطريق أهل الإرادة . [ ص: 101 ] فهؤلاء يبنون أمرهم على الإرادة وأولئك يبنون أمرهم على النظر وهذه هي القوة العلمية ولا بد لأهل الصراط المستقيم من هذا وهذا ولا بد أن يكون هذا وهذا موافقا لما جاء به الرسول . فالإيمان قول وعمل وموافقة السنة وأولئك عظموا النظر وأعرضوا عن الإرادة وعظموا جنس النظر ولم يلتزموا النظر الشرعي فغلطوا من جهة كون جانب الإرادة لم يعظموه وإن كانوا يوجبون الأعمال الظاهرة فهم لا يعرفون أعمال القلوب وحقائقها ومن جهة أن النظر لم يميزوا فيه بين النظر الشرعي الحق الذي أمر به الشارع وأخبر به وبين النظر البدعي الباطل المنهي عنه .

                وكذلك " الصوفية " عظموا جنس الإرادة إرادة القلب وذموا الهوى وبالغوا في الباب ولم يميز كثير منهم بين الإرادة الشرعية الموافقة لأمر الله ورسوله وبين الإرادة البدعية بل أقبلوا على طريق الإرادة دون طريقة النظر وأعرض كثير منهم فدخل عليهم الداخل من هاتين الجهتين ; ولهذا صار هؤلاء يميل إليهم النصارى ويميلون إليهم وأولئك يميل إليهم اليهود ويميلون إليهم وبين اليهود والنصارى غاية التنافر والتباغض . وكذلك بين أهل الكلام والرأي وبين أهل التصوف والزهد [ ص: 102 ] تنافر وتباغض وهذا وهذا من الخروج عن الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . نسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية