الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل السابع : دراسة أحاديث أخرى

          فإن قيل : فما وجه حديثه أيضا الذي حدثناه الفقيه أبو محمد الخشني بقراءتي عليه ، [ حدثنا أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، قال : حدثنا إبراهيم بن سفيان حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا ليث ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن سالم مولى النصريين ] ، قال : سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إنما محمد بشر ، يغضب كما يغضب البشر ، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها كفارة له ، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة .

          وفي رواية : فأيما أحد دعوت عليه دعوة .

          وفي رواية : ليس لها بأهل . وفي رواية : فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة وصلاة ورحمة .

          وكيف يصح أن يلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا يستحق اللعن ، ويسب من لا يستحق السب ، ويجلد من لا يستحق الجلد ، أو يفعل مثل ذلك عند الغضب ، وهو معصوم عن هذا كله ؟ .

          فاعلم شرح الله صدرك أن قوله - صلى الله عليه وسلم - أولا : ليس لها بأهل ، أي عندك يا رب في باطن أمره ، فإن حكمه - صلى الله عليه وسلم - على الظاهر ، كما قال : وللحكمة التي ذكرناها ، فحكم - صلى الله عليه وسلم - بجلده ، أو أدبه بسبه أو لعنه بما اقتضاه عنده حال ظاهره ، ثم دعا - صلى الله عليه وسلم - لشفقته على أمته ، ورأفته ، ورحمته للمؤمنين التي وصفه الله بها ، وحذره أن يتقبل الله فيمن دعا عليه دعوة أن يجعل دعاءه ، ولعنه له رحمة ، فهو معنى قوله : ليس لها بأهل ، لا أنه - صلى الله عليه وسلم - يحمله الغضب ، ويستفزه الضجر لأن يفعل مثل هذا بمن لا يستحقه من مسلم .

          وهذا معنى صحيح ، ولا يفهم من قوله : " أغضب كما يغضب البشر " ، أن الغضب حمله على ما لا يجب فعله ، بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه ، وأنه مما [ ص: 527 ] كان يحتمل ، ويجوز عفوه عنه ، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه ، والعفو عنه .

          وقد يحمل على أنه خرج مخرج الإشفاق وتعليم أمته الخوف والحذر من تعدي حدود الله .

          وقد يحمل ما ورد من دعائه هنا ، ومن دعواته على غير واحد في غير موطن ، على غير العقد ، والقصد ، بل بما جرت به عادة العرب ، وليس المراد بها الإجابة ، كقوله : تربت يمينك .

          ولا أشبع الله بطنك . وعقرى حلقى . وغيرها من دعواته .

          وقد ورد في صفته في غير حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فحاشا ، وقال أنس لم يكن سبابا ، ولا فاحشا ، ولا لعانا ، وكان يقول لأحدنا عند المعتبة ، ما له ! ترب جبينه ! .

          فيكون حمل الحديث على هذا المعنى ، ثم أشفق - صلى الله عليه وسلم - من موافقة أمثالها إجابة ، فعاهد ربه ، كما قال في الحديث ، أن يجعل ذلك للمقول زكاة ورحمة وقربة .

          وقد يكون ذلك إشفاقا على المدعو عليه ، وتأنيسا له ، لئلا يلحقه من استشعار الخوف ، والحذر من لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتقبل دعائه ، ما يحمله على اليأس ، والقنوط .

          وقد يكون ذلك سؤالا منه لربه لمن جلده ، أو سبه على حق ، وبوجه صحيح أن يجعل ذلك له كفارة لما أصابه ، وتمحية لما اجترم ، وأن تكون عقوبته له في الدنيا سبب العفو والغفران كما جاء في الحديث الآخر : ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة .

          فإن قلت : فما معنى حديث الزبير ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين تخاصمه مع الأنصاري في شراج الحرة : اسق يا زبير حتى يبلغ الكعبين . فقال له الأنصاري : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر . . الحديث .

          فالجواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منزه أن يقع بنفس مسلم منه في هذه القصة أمر يريب ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ندب الزبير أولا إلى الاقتصار على بعض حقه على طريق التوسط ، والصلح ، فلما لم يرض بذلك الآخر ، ولج ، وقال ما لا يجب استوفى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه .

          ولهذا ترجم البخاري [ ص: 528 ] على هذا الحديث : باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم .

          وذكر في آخر الحديث : فاستوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ للزبير حقه .

          وقد جعل المسلمون هذا الحديث أصلا في قضيته .

          وفيه الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في كل ما فعله في حال غضبه ، ورضاه ، وأنه وإن نهى أن يقضي القاضي ، وهو غضبان فإنه في حكمه في حال الغضب ، والرضى سواء لكونه فيهما معصوما . وغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا إنما كان لله - تعالى - لا لنفسه ، كما جاء في الحديث .

          وكذلك الحديث في إقادته عكاشة من نفسه لم يكن لتعد حمله الغضب عليه ، بل وقع في الحديث نفسه أن عكاشة قال له : وضربتني بالقضيب ، فلا أدري أعمدا ، أم أردت ضرب الناقة ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أعيذك بالله يا عكاشة أن يتعمدك رسول الله .

          وكذلك في حديثه الآخر مع الأعرابي حين طلب - عليه السلام - الاقتصاص منه ، فقال الأعرابي قد عفوت عنك . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ضربه بالسوط لتعلقه بزمام ناقته مرة بعد أخرى ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينهاه ، ويقول له : تدرك حاجتك ، وهو يأبى ، فضربه بعد ثلاث مرات .

          وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - لمن لم يقف عند نهيه صواب ، وموضع أدب ، لكنه عليه الصلاة السلام : أشفق إذ كان حق نفسه من الأمر حتى عفا عنه .

          وأما حديث سواد بن عمرو : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا متخلق ، فقال عليه الصلاة والسلام : ورس ورس حط حط وغشيني بقضيب في يده في بطني فأوجعني .

          قلت : القصاص يا رسول الله . فكشف لي عن بطنه
          .

          وإنما ضربه - صلى الله عليه وسلم - لمنكر رآه به ، ولعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه ، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه على ما قدمنا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية