الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فإن حال الكافر : لا تخلو من أن يتصور الرسالة أو لا ; فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها وعدم إيمان بها . كما قال : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } وقال : { فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة .

                فلهذا قرن التكذيب بالغفلة وإن تصور ما جاء به الرسول وانصرف فهو معرض عنه كما قال تعالى . { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } وكما قال : { رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } وكما قال : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } .

                وإن كان مع ذلك لا حظ له ; لا مصدق ولا مكذب ولا محب ولا مبغض فهو في ريب منه كما أخبر بذلك عن حال كثير من الكفار منافق وغيره كما قال : { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } وكما قال موسى : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } { قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .

                فأخبر سبحانه : عن مناظرة الكفار للرسل في الربوبية أولا فإنهم في شك من الله الذي يدعونهم إليه وفي النبوة ثانيا بقولهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } وهذا بحث كفار الفلاسفة بعينه ; وإن كان مكذبا له فهو التكذيب والتكذيب أخص من الكفر . فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر . وليس كل كافر مكذبا بل قد يكون مرتابا إن كان ناظرا فيه أو معرضا عنه بعد أن لم يكن ناظرا فيه وقد يكون غافلا عنه لم يتصوره بحال لكن عقوبة هذا موقوفة على تبليغ المرسل إليه .

                وكل واحد من الأمرين في أن يضم إلى المعرفة المجملة إما تكذيب وإما كفر بلا تكذيب ; واقع كثيرا في سالكي الطريقين النظر في القياس المجرد والعمل بالعبادة المجردة .

                مثال ذلك أن كثيرا من النظار أثبت واجب الوجود أو صانع العالم وذهبوا في تعيينه وصفاته مذاهب يضيق هذا الموضع عن تفصيلها - معروفة [ ص: 80 ] في كتب المقالات من أهل ملتنا وغير أهل ملتنا - مقالات الإسلاميين المصلين ومقالات غيرهم . وكثير من العباد المتأخرين أثبت أيضا ذلك إثباتا مجملا وتوهموا فيه أنواعا من التوهمات الكفرية الذي يصفها عارفوهم .

                فمنهم من توهمه الوجود المطلق المشترك بين الموجودات كالإنسان المطلق مع أعيانه وأفراده فإذا تعين الوجود لم يكن إياه إذ المطلق ليس هو المعين كما يقوله الصدر القونوي .

                ومنهم من توهم أن وجود الممكنات هو عين وجوده الفائض عليها كما يذكره صاحب الفصوص .

                ومنهم يتوهمه جملة الوجود وكل معين فهو جزء منه كالبحر مع أمواجه وأعضاء الإنسان مع الإنسان . فليس هو ما يختص بكل معين ; لكنه مجموع الكائنات ; كالعفيف التلمساني وعبد الله الفارسي البلياني ويقولون : إن كل موجود فهو مرتبة من مراتب الوجود أو مظهر من مظاهره بمنزلة أمواج البحر معه وأعضاء الإنسان معه وأجزاء الهوى مع الهواء أو بمنزلة هذا الإنسان وهذا الحيوان مع الحيوان المطلق والإنسان المطلق .

                ويقول شاعرهم ابن إسرائيل : -

                وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق

                وقال : -

                وتلتذ إن مرت على جسدي يدي     لأني في التحقيق لست سواكم

                [ ص: 81 ] ولهذا : ليس عندهم للإنسان غاية وراء نفسه وإنما غايته أن ينكشف الغطاء عن نفسه فيرى أن نفسه هي الحق وكان قبل ذلك محجوبا عنها فلما شاهد الحقيقة رأى أنه هو كما قال ابن إسرائيل : -

                ما بال عيسك لا يقر قرارها ؟     إلا في ضللك لا تني منتقلا
                فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن     إلا إليك إذا بلغت المنزلا



                وكما يقول بعضهم : -

                وفي كل شيء له آية     تدل على أنه عينه الأشياء

                والله يقول : { إن إلى ربك الرجعى } ويقول : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا } ويقول : { وردوا إلى الله مولاهم الحق } ويقول : { إنا لله وإنا إليه راجعون } ونحو ذلك .

                وقال التلمساني - وكان راسخ القدم في هذه الزندقة التي أسموا بها التوحيد والحقيقة : -

                توهمت قدما أن ليلى تبرقعت     وأن حجابا دونها يمنع اللثما
                فلاحت فلا والله ما كان حجبها     سوى أن طرفي كان عن حبها أعمى

                وله شعر كثير في هذا الفن :


                هي الجوهر الصرف القديم وإن بدا     لها خبث أتيت به فهو حادث
                [ ص: 82 ] حلفت لهم ما كان منها غير ذاتها     فقالوا اتئد فيها فإنك حانث
                وله : وقل لحبيبك مت وجدا وذب طربا     فيها وقل لزوال العقل لا تزل
                واصمت إلى أن تراها فيك ناطقة     فإن وجدت لسانا قائلا فقل



                ولهذا : يصلون إلى مقام لا يعتقدون فيه إيجاب الواجبات . وتحريم المحرمات وإنما يرون الإيجاب والتحريم للمحجوبين عندهم الذين لم يشهدوا أنه هو حقيقة الكون ; فمن العابد ؟ ومن المعبود ؟ ومن الآمر ؟ ومن المأمور ؟ كما قال صاحب الفتوحات في أولها : -

                الرب حق والعبد حق     يا ليت شعري من المكلف ؟
                إن قلت عبد فذاك ميت     أو قلت رب أنى يكلف ؟

                وعندهم أن التكليف هو في مرتبة من مراتب الأسماء والصفات وهو مرتبة الممتحن .

                قال بعضهم : -

                ما الأمر إلا نسق واحد     ما فيه من مدح ولا ذم
                وإنما العادة قد خصصت     والطبع والشارع بالحكم

                [ ص: 83 ] ومنشأ هذين عن الصابئة - كما يبين ذلك عند التأمل - فإن الصابئة الخارجين عن التوحيد لله وحده لا شريك له - كالمشركين والمجوس - مثل فرعون موسى ونمرود إبراهيم ; وغيرهم من البشر : معترفون بالوجود المطلق .

                ولهذا : كان أفضل علوم الفلاسفة هو علم ما بعد الطبيعة أعني بهم الفلاسفة المشائين الذين يتبعون " أرسطو " فإنه عندهم المعلم الأول الذي صنف في أنواع التعاليم من أجزاء المنطق والعلم الطبيعي كالحيوان والمكان والسماء والعالم والآثار العلوية وصنف فيما بعد الطبيعة - وهو عندهم غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم - وهو العلم الذي يسميه متأخرو الفلاسفة - كابن سينا : ( العلم الإلهي ) . وموضوع هذا العلم عند أصحابه :

                هو الوجود المطلق ولواحقه مثل الكلام في الموجود والمعدوم ثم في تقسيم الموجود إلى واجب وممكن . وقديم ومحدث وعلة ومعلول وجوهر وعرض ونحو ذلك .

                ثم الكلام في أنواع هذه الأقسام وأحكامها . مثل : تقسيم العلل إلى الأنواع الأربعة وهى : الفاعل والغاية اللذان هما سببان لوجود الشيء والمادة والصورة اللذان هما سببان لحقيقة المركب وتقسيم الأعراض إلى الأجناس المقالية التسعة وهي : الكيف والكم والوضع والأين ومتى والإضافة والملك وأن يفعل وأن ينفعل ; أو جعلها خمسة على ما بينهم من الاختلاف [ ص: 84 ] وفي آخر علم ما بعد الطبيعة حرف اللام - كأنه هو العلة الغائية الذي إليه الحركة ; كما أثبت المعلم الأول وجوده بطريق الاستدلال بالحركة - الذي تكلم فيه المعلم الأول على واجب الوجود لذاته ; بكلام مختصر ذكر فيه قدرا يسيرا من أحكامه - وهو الذي كان يقول فيه ابن سينا - فهذا ما عند المعلم الأول من معرفة الله .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية