الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم

انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب ، وفي ذلك تسلية للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بما لاقاه الرسل عليهم السلام قبله من أقوامهم .

فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية .

وأكدت الجملة بلام القسم وقد لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته .

[ ص: 44 ] وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة إني بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال ، أي قائلا .

وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف - بفتح الهمزة - على تقدير حرف جر وهو الباء للملابسة ، أي أرسلناه متلبسا بذلك ، أي بمعنى المصدر المنسبك من أني نذير ، أي متلبسا بالنذارة البينة .

وتقدم الكلام على نوح - عليه السلام - وقومه عند قوله - تعالى : إن الله اصطفى آدم ونوحا في آل عمران . وعند قوله : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه في سورة الأعراف .

وجملة لا تعبدوا إلا الله مفسرة لجملة أرسلنا لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه ، ويجوز كونها تفسيرا لـ نذير لما في " نذير " من معنى القول ، كقوله في سورة نوح قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه . وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة أني إذا اعتبرت أن تفسيرية . ويجوز جعل أن مخففة من الثقيلة فيكون بدلا من ( أني لكم نذير مبين ) على قراءة - فتح الهمزة - واسمها ضمير شأن محذوف ، أي أنه لا تعبدوا إلا الله .

وجملة إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم تعليل لـ " نذير " لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخزهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه .

ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي ، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم ; لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليما ، أي مؤلما .

وجملة أخاف عليكم ونحوها مثل أخشى عليك ، تستعمل للتوقع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به ، كقول لبيد :


أخشى على أربد الحتوف ولا أخشى عليه الرياح والمطرا



فيتعدى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف على كما في الآية وبيت لبيد .

[ ص: 45 ] والعذاب هنا نكرة في المعنى ; لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملا لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعا بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح - عليه السلام - بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك من عصوه دون عقوبة . ولذلك قال في كلامه الآتي إنما يأتيكم به الله إن شاء على ما يأتي هنالك . وكان العذاب شاملا لعذاب الآخرة أيضا إن بقوا على الكفر ، وهو مقطوع به لأن الله يقرن الوعيد بالدعوة ، فلذلك قال نوح - عليه السلام - في كلامه الآتي وما أنتم بمعجزين ، وقد تبادر إلى أذهان قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . ولعل في كلام نوح - عليه السلام - ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان .

التالي السابق


الخدمات العلمية