الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الشبهة الثانية ) قول هذا الأزهري " وإن رجعنا إلى قول الفقهاء - ; لأن الجواز وعدمه من مباحثهم - رأينا الإمام الشافعي روي عنه في الأم أن للأعجمي أن ينطق بالقرآن مترجما إلى غير العربية في الصلاة ، وأن ما ينطق به إذا أراد القرآن به صحت صلاته ، وعندما ينطق به قراءة وقرآنا ، وأنه يجوز وجود جماعة تصلي في مسجد يقرأ الإمام في تلك الصلاة بلسان أعجمي ، ويقرأ المؤتمون به بلسان أعجمي ، كذلك أم القرآن وغيرها من السور ما داموا لا يحسنون العربية " اهـ .

                          يا للعجب ويا للفوضى : الإمام الشافعي يجيز للأعجمي أن يقرأ القرآن في الصلاة مترجما إلى غير العربية ويسمي الترجمة قرآنا ؟ الإمام الشافعي يجوز إقامة صلاة الجماعة العامة في المسجد بإمام يقرأ بلسان أعجمي ، وجماعة يقرؤون بلسان أعجمي سواء في ذلك أم القرآن وغيرها من السور ؟ وماذا بقي ؟ إذا كان الشافعي يجيز قراءة القرآن في الصلاة باللسان الأعجمي للإمام وللجماعة وللأفراد بمثل هذا الإطلاق الذي حكاه هذا العالم الأزهري عن الأم ، فما معنى ذلك البيان المفصل الذي أورده في رسالته في الأصول في إثبات كون القرآن عربيا ، وإنه يجب على كل مسلم أن يتعلم العربية ليقرأه بها في الصلاة كما أنزله الله إلخ ؟ .

                          ( والجواب ) عن هذه الشبهة أن صاحبها تقول على الشافعي ما لم يقل ، على أنه كان [ ص: 289 ] قد نقل بعض عبارته بتصرف ، ثم فسرها بما نقلناه عنه ، فقصر في النقل ، وأخطأ في الفهم ، ولا نتهمه بتعمد التقول على الإمام الشافعي ، وهذا نص عبارة الأم : " فإن أم أعجمي أو لحان فأفصح بأم القرآن . أو لحن لا يحيل معنى شيء منها أجزأته وأجزأتهم ، وإن لحن فيها لحنا يحيل معنى شيء منها لم تجز من خلفه صلاتهم وأجزأته إذا لم يحسن غيره ، كما يجزيه أن يصلي بلا قراءة إذا لم يحسن القراءة . ومثل هذا إن لفظ منها بشيء بالأعجمية ، وهو لا يحسن غيره أجزأته صلاته ، ولم تجز من خلفه قرءوا معه أو لم يقرءوا ، وإذا ائتموا به فإن أقاما معا أم القرآن أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غيرها أجزأته ، ومن خلفه صلاتهم إذا كان أراد القراءة لما نطق به من عجمة ولحن . فإن أراد به كلاما غير القراءة فسدت صلاته ، فإن ائتموا به فسدت صلاتهم " اهـ .

                          ذكرت هذه الأحكام في الأم في فصل عنوانه ( إمامة الأعجمي والأعجمي كالأعجم من في لسانه لكنة وفهاهة ، سواء كان عربيا أو عجميا ، وضده الفصيح الجيد النطق كما في المصباح وغيره ، وحكم الأعجمي أنه يغتفر له ما ذكر آنفا من اللحن في الصلاة منفردا وإماما أو منفردا فقط ، كما يغتفر ترك القراءة فيها مطلقا لمن لا يحسنها . وقوله الأخير الذي لم يفهمه الناقل فكان محل الشبهة وهو " وإذا ائتموا به " إلخ . معناه أن الأعجمي الذي لا يحسن القراءة إذا أم مثله فأقاما معا أم القرآن ، أي أحسن كل من الإمام والمأموم قراءة الفاتحة ، أو لحنا جميعا في غير الفاتحة ، أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غير الفاتحة كانت صلاة كل منهما صحيحة ; لأن اللحن والعجمة والرطانة الأعجمية في غير الفاتحة لا تبطل الإمامة ولا الصلاة ، إذ ركن القراءة في الصلاة هو الفاتحة ، وما عداه من القرآن فهو مستحب لا فرض ولا واجب - وليس عند الشافعي في الصلاة واجب غير فرض - والمفروض أن ما ذكر من النطق بالأعجمية أو باللسان الأعجمي في غير الفاتحة سببه العجز عن القراءة الفصيحة لا التلاعب ولا قصد غير القراءة ، وإلا بطلت صلاتهما .

                          ولا يدخل في هذا الباب شيء من تعمد ترجمة القرآن والاستغناء بالعجمي المترجم به عن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى ، وتسميته قرآنا . كيف وقد صرح الشافعي في الرسالة بوجوب قراءة القرآن في الصلاة وغيرها بالعربية كما أنزله الله تعالى ، وبوجوب أداء سائر الأذكار المأمور بها بالعربية أيضا . وبوجوب تعلم العربية على كل مسلم لذلك ، وهذا نص عبارته ( كما في ص9 من الطبعة الأميرية التي مع كتاب الأم له ) : .

                          " فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده ، حتى يشهد به أن لا إله [ ص: 290 ] إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ويتلو به كتاب الله تعالى ، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير ، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك " إلخ .

                          هذا نص الشافعي بعد أن أطال في كون كل ما في القرآن عربي ، وكتب مذهبه متفقة في المسألة كسائر كتب المسلمين وأتباعه أشدهم فيها - أليس من العجيب مع هذا أن يتجرأ عالم أزهري فيعزوا إلى رواية الأم عن الشافعي ما يأتي على إطلاقه : .

                          ( 1 ) إن للأعجمي أن ينطق بالقرآن مترجما إلى غير العربية في الصلاة .

                          ( 2 ) وإن ما ينطق به إذا أراد القراءة به صحت صلاته ، وعد ما ينطق قراءة وقرآنا .

                          ( 3 ، 4 ) وإنه يجوز وجود جماعة تصلي في مسجد يقرأ الإمام في تلك الصلاة بلسان أعجمي أم القرآن ، وغيرها من السور ما داموا لا يحسنون العربية .

                          أين ذكر الشافعي الترجمة وأباحها للأعجمي ؟ اللهم هذا افتراء عليه .

                          أين أجاز الشافعي إقامة الجماعة في مسجد يقرأ إمامه فيها الفاتحة وغيرها بلسان أعجمي إلخ ؟ وعبارته المنقولة عنه آنفا صريحة في كون عجز الأعجمي عن الإفصاح ولو ببعض الفاتحة عذرا له دون من يصلي خلفه ، فإنهم لا تصح صلاتهم معه ، وعدم الإفصاح بالألفاظ العربية شيء والترجمة بلسان عجمي شيء آخر .

                          وجملة القول أن عبارة الإمام الشافعي في هذا المقام خاصة بمن لا يحسن النطق بالقرآن ، وما يعذر به هو ومن يأتم به ، ومثل هذا العجز معهود في كل زمان نسمعه بآذاننا ممن يتعلمون لغة غير لغتهم ولا يتقنونها من العرب أو العجم ، فهم يحرفون ويلحنون ويخلطون ألفاظا من اللغة التي يجيدونها باللغة التي لا يجيدونها بغير اختيار ، ونعيد القول ونؤكده بأن تعمد ترجمة القرآن والقراءة به لا تدخل في شيء من كلام الإمام ، ولم تخطر ببال أحد من أحد أتباعه في مذهبه عندما شرحوا كلامه ، وفصلوا أحكامه ، ولا تخطر ببال أي قارئ له يفهم ما يقرأ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية