الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الشبهة الرابعة ) مسألة تبليغ الدعوة إلى الإسلام . وقد بينا بطلانها من قبل ، ونزيدها هنا بيانا فنقول : لئن كان اطلاع بعض الأفراد من أعاجم الشرق والغرب على ترجمة القرآن سببا لإسلامهم ، فعلته أنهم عرفوا منها أصول الإسلام ومقاصده كلها أو بعضها ، وذلك كاف لتفضيله على غيره من الأديان كلها ، ولم يكن سببه ترجمته كتأثير أصله المعجز للبشر في إقناع العقول ، وهداية القلوب الذي كان سبب اهتداء العرب ، وقلب طباعهم ، وجمع كلمتهم ، وارتفاع رايتهم ، وخضوع الأمم والشعوب لهم . ولو بلغت هذه الأصول والمقاصد للأعاجم بلغاتهم بأسلوب آخر بأن يذكر كل أصل في فصل خاص مع الشواهد عليه من القرآن والسنة ، ببيان معاني نصوصهما بالتفسير ، وإقامة الأدلة عليه من النقل والعقل - لكان يكون ذلك أقرب إلى الإقناع ، وأشد تأثيرا في هداية المستعد للإسلام فإن هذه هي الطريقة المثلى للدعوة ، وهي التي جرى عليها مسلمو خير القرون ، وشهد لهم بذلك أصدق الشهود ، وأبعدها عن الجرح والطعن - وهي سيرتهم الفضلى في فتوحهم وعدلهم المطلق في أحكامهم ، وصلاحهم وإصلاحهم في أعمالهم ، وبذلك انتشر [ ص: 292 ] الإسلام في الشرق والغرب ، وساد أهله الأمم والشعوب بسرعة لم يعرف لها نظير في التاريخ .

                          فإسلام الأمة العربية كان بتأثير هداية القرآن وهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهاده به كما قال تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ( 17 : 9 ) ، نهدي به من نشاء من عبادنا ( 42 : 52 ) ويهدي به كثيرا ( 2 : 26 ) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ( 5 : 16 ) وقال لنبيه : وجاهدهم به جهادا كبيرا ( 25 : 52 ) وقد كان كل ما كان من اضطهاد رؤساء قومه المعاندين له ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأجل صده عن تبليغ القرآن للعرب لجزمهم بما يكون من جذبهم به إلى اتباعه ، كما قال لهم عمه أبو لهب في أول العهد بتبليغهم الدعوة : خذوا على يديه ، قبل أن تجتمع العرب عليه . ولم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلب منهم ، ثم من كل من كان يعرض نفسه عليهم في الموسم إلا حمايته ليبلغ دعوة ربه ، ولما أسلم من أسلم من الأنصار في موسم الحج سرا ، ونشروا الدعوة في عاصمتهم يثرب ، وصار لهم قوة يحمونه بها من قريش هاجر إليهم . فما زالت قريش تقاتله إلى أن رضي منهم بعد استكمال قوته أن يصالحهم في الحديبية بالشروط التي يرضونها - مع كراهة أصحابه كلهم لها - في مقابلة الشرط الوحيد الذي كان هو أهم المهمات عنده عليه صلوات الله وسلامه ، وهو حرية الاختلاط والاجتماع بينه وبين سائر العرب ، لعلمه بأن سماعهم للقرآن - ولاسيما منه - كاف لإسلام السواد الأعظم منهم ، وكذلك كان .

                          وكذلك ما فعل خلفاؤه وأصحابه الهادون المهديون من العجائب في نشر الإسلام وفتح الأقطار ، وثل عروش أعظم دول الأرض قوة وعظمة ونظاما وتشريعا وحضارة ، وتبديل ممالكهم وشعوبها بذلك كله ما هو خير منه - ما فعلوا ذلك كله إلا بتأثير القرآن .

                          وأما انتشار الإسلام في الأعاجم فقد كان بتبليغ الصحابة ثم من تبعهم في هديهم من العرب فالعجم للدعوة ، وكان برهانهم عليها من أحوالهم الصالحة وسيرتهم الحسنى أقوى تأثيرا في تلك الشعوب من أقوالهم التي كانت تنقل إليها بالترجمة ، ولم ينتشر الإسلام في شعب منها بترجمة القرآن بلغته ، وقراءتهم لترجمته ، وإنما كانت درجة الهدى والعلم والعمل ترتفع فيهم بقدر تدبرهم له بعد تعلم لغته ، فكان من متقني لغة القرآن من الموالي كبار الأئمة المجتهدين من أهل الحديث وأهل الرأي ، وجهابذة علوم اللغة وفنونها ، وأفراد العباد ، ونوابغ الأدباء ، وفحولة الشعراء .

                          وقد كان إيمانهم الصحيح بتلك الدعوة المثلى هو الذي حملهم على طلب لغة الدين ( العربية ) من غير إلزام حاكم ، ولا نظام تعليم إجباري تؤسس له المدارس .

                          [ ص: 293 ] وقد ترجم القرآن في هذه القرون الأخيرة بأشهر لغات الشعوب الكبيرة من غربية وشرقية ، فكانت ترجمته مثارا للشبهات وسببا للمطاعن ، أكثر مما كانت سببا للاهتداء إلى الإسلام ( فإن قيل ) : إن مثار الشبهات لم يكن من الترجمة بل من الخطأ فيها ، وذلك يتلافى بالترجمة الصحيحة التي ندعو إليها ، وإن سبب الطعن لم يكن إلا سوء قصد من أعداء الإسلام من دعاة النصرانية أو الملاحدة ، وهؤلاء يطعنون في القرآن العربي المنزل أيضا .

                          ( قلت ) : إني على علمي بهذا أقول : إن الترجمة أكبر عون على الأمرين ، فإن الذي يطعن في القرآن المنزل إما أن يكون ضعيفا في اللغة العربية أو حاذقا لها راسخا فيها ، فالأول شبيه بمن يحاول فهم القرآن من الترجمة أكثر ما يؤتى من جهله باللغة ، وأما الثاني فهو يتكلف الطعن تكلفا يكابر به وجدانه ، ويغالب ذوقه وبيانه ، فيجيء طعنه ضعيفا سخيفا ، ويكون الرد عليه سهل المسلك . واضح المنهج ، وقلما يكون الدفاع عن الترجمة كذلك ، وإن كانت صحيحة ، ولن تكون صحيحة إلا في بعض الجمل أو الآيات القصيرة ، دون السور والآيات الطويلة . بل بعض المفردات تتعذر ترجمتها بمفردات من اللغات الأخرى تؤدي المراد منها ، وإنه ليوجد في كل لغة من هذه المفردات التي لا يوجد لها مرادف في لغة أخرى ، وفي كلام بعض العارفين باللغة العربية وغيرها من اللغات المشهورة ما يدل على أن العربية أغناهن بهذه المفردات دع ما لها من الخصائص في فنون المجاز والكنايات .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية