الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر خلع المهتدي وولاية المعتمد أحمد ابن المتوكل وإيراد شيء من فضائل المهتدي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما بلغ موسى بن بغا أن مساورا الشاري قد عاث بتلك الناحية ركب إليه في جيش كثيف ومعه مفلح وبايكباك التركي ، فاقتتلوا هم ومساور الخارجي ، فلم يظفروا منه بشيء يعجبهم ، وهرب منهم وأعجزهم ، وكان قد فعل قبل مجيئهم الأفاعيل المنكرة . والمقصود أن الخليفة المهتدي بالله أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك ، فكتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ، ويكون هو الأمير على الناس ، وأن يقبل بهم إلى سامرا ، فلما وصل إليه الكتاب [ ص: 521 ] أقرأه موسى بن بغا ، فاشتد غضبه على المهتدي ، واتفقا عليه وقصدا إليه بلد سامرا ، وتركا ما كانا فيه . فلما بلغ ذلك المهتدي استخدم من فوره جندا من المغاربة والفراغنة والأشروسنية والأزكشية والأتراك أيضا ، وركب في جيش كثيف ، فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان وأظهر بايكباك السمع والطاعة ، فدخل في ثاني عشر رجب إلى الخليفة سامعا مطيعا ، فلما أوقف بين يديه وحوله الأمراء والسادة من بني هاشم ، شاورهم فيه ، فقال له صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور : يا أمير المؤمنين ، لم يبلغ أحد من الخلفاء في الشجاعة والإقدام ما بلغت ، وقد كان أبو مسلم الخراساني شرا من هذا وأكثر جندا ، ولما قتله أبو جعفر المنصور سكنت الفتنة وخمد صوت أصحابه . فأمر عند ذلك المهتدي بالله بضرب عنق بايكباك ، ثم ألقى رأسه إلى الأتراك ، فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخيه طغوتيا ، فخرج إليهم الخليفة فيمن معه ، فلما التقوا خامرت الأتراك الذين كانوا مع الخليفة إلى أصحابهم ، وصاروا ألبا واحدا على الخليفة وأصحابه ، فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف ، ثم حملوا عليهم فهزموهم وانهزم المهتدي بالله وبيده السيف صلتا ، وهو ينادي : يا أيها الناس ، انصروا خليفتكم . فدخل دار أحمد بن جميل صاحب المعونة ، فوضع فيها سلاحه ولبس البياض ، وأراد أن يذهب [ ص: 522 ] فيختفي ، فعاجله أحمد بن خاقان فيها فأخذه قبل أن يذهب ، ورمي بسهم ، وطعن في خاصرته ، وحمل على دابة وخلفه سائس ، وعليه قميص وسراويل حتى حصل في دار أحمد بن خاقان ، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه ، وأخذوا خطه بستمائة ألف دينار وسلموه إلى رجل فلم يزل يطأ خصيتيه حتى مات رحمه الله . وذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام ، وولد في سنة تسع عشرة ، وقيل : خمس عشرة ومائتين . وصلى عليهجعفر بن عبد الواحد ، ودفن بمقبرة المنتصر ابن المتوكل ، وكان أسمر رقيقا ، أجلى ، حسن اللحية ، أشهب ، حسن العينين ، عظيم البطن ، عريض المنكبين ، قصيرا ، طويل اللحية ، يكنى أبا عبد الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب : وكان من أحسن الخلفاء مذهبا ، وأجملهم طريقة ، وأظهرهم ورعا ، وأكثرهم عبادة ، وإنما روى حديثا واحدا ، ثم أسند عنه ، قال : حدثني علي بن أبي هاشم بن طبراخ ، عن محمد بن الحسن الفقيه ، عن ابن أبي ليلى ، عن داود بن علي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : [ ص: 523 ] قال العباس : يا رسول الله ، ما لنا في هذا الأمر ؟ قال : " لي النبوة ، ولكم الخلافة ، بكم يفتح هذا الأمر ، وبكم يختم " . وقال للعباس : " من أحبك نالته شفاعتي ، ومن أبغضك لا نالته شفاعتي " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الخطيب أن رجلا استعدى المهتدي على خصمه ، فحكم بينهما بالعدل ، فأنشأ الرجل يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حكمتموه فقضى بينكم أبلج مثل القمر الزاهر     لا يقبل الرشوة في حكمه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا يبالي غبن الخاسر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال له المهتدي بالله : أما أنت أيها الرجل ، فأحسن الله مقالتك ، وأما أنا فإني ما جلست حتى قرأت : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ الأنبياء : 47 ] قال : فبكى الناس حوله . فما رئي باكيا أكثر من ذلك اليوم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : سرد المهتدي الصوم منذ ولي إلى أن قتل رحمه الله . وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز الأموي في أيام خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد بن سعيد الأموي : كنا جلوسا بمكة وعندي جماعة ونحن نبحث في النحو وأشعار العرب ، إذ وقف علينا رجل مجنون ، فأنشأ يقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 524 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما تستحون الله يا معدن الجهل     شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إمامكم أضحى قتيلا مجدلا     وقد أصبح الإسلام مفترق الشمل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنتم على الأشعار والنحو عكف     تضجون بالأصوات في قلة العقل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فنظرنا وأرخنا ذلك اليوم فإذا المهتدي بالله قد قتل في ذلك اليوم ، وكان يوم الإثنين لأربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية