الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الاعتكاف هل يجوز بغير صوم قال الله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وقد بينا أن الاعتكاف اسم شرعي ، وما كان هذا حكمه من الأسماء فهو بمنزلة المجمل الذي يفتقر إلى البيان وقد اختلف السلف في ذلك ، فروى عطاء عن ابن عمر عن ابن عباس وعائشة قالوا : " المعتكف عليه الصوم " ، وقال سعيد بن المسيب عن عائشة : " من سنة المعتكف أن يصوم " .

وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال : " لا اعتكاف إلا بصوم " وهو قول الشعبي وإبراهيم ومجاهد ، وقال آخرون : " يصح بغير صوم " ؛ روى الحكم عن علي وعبد الله ، وقتادة عن الحسن وسعيد ، وأبو معشر عن إبراهيم قالوا : " إن شاء صام وإن شاء لم يصم " وروى طاوس عن ابن عباس مثله .

واختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح : " لا اعتكاف إلا بصوم " وقال الليث بن سعد : " الاعتكاف في رمضان ، والجوار في غير رمضان ، ومن جاور فعليه ما على المعتكف من الصيام وغيره " ، وقال الشافعي : " يجوز الاعتكاف بغير صوم " قال أبو بكر : لما كان الاعتكاف اسما مجملا لما بينا كان مفتقرا إلى البيان ، فكل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه فهو وارد مورد البيان ، فيجب أن يكون على الوجوب ؛ لأن فعله إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب إلا ما قام دليله ، فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا اعتكاف إلا بصوم وجب أن يكون الصوم من شروطه التي لا يصح إلا به ، كفعله في الصلاة لأعداد الركعات [ ص: 306 ] والقيام والركوع والسجود لما كان على وجه البيان كان على الوجوب .

ومن جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الله بن بديل بن ورقاء الليثي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر : أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم .

وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح القرشي قال : حدثنا عمرو بن محمد عن عبد الله بن بديل بإسناده ، نحوه ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب ، فثبت بذلك أنه من شروط الاعتكاف ، ويدل عليه أيضا قول عائشة رضي الله عنها : " من سنة المعتكف أن يصوم " ، ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على لزومه بالنذر .

فلولا ما يتضمنه من الصوم لما لزم بالنذر ؛ لأن ما ليس له أصل في الوجوب لا يلزم بالنذر ولا يصير واجبا ، كما أن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة وإن تقرب به ، ويدل عليه أن الاعتكاف لبث في مكان فأشبه الوقوف بعرفة ، والكون بمنى لما كان لبثا في مكان لم يصر قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه هو في نفسه قربة ، فالوقوف بعرفة الإحرام والكون بمنى الرمي .

فإن قيل : لو كان من شرطه الصوم لما صح بالليل لعدم الصوم فيه ، قيل له : قد اتفقوا على أن من شرطه اللبث في المسجد ثم لا يخرجه من الاعتكاف خروجه لحاجة الإنسان وللجمعة ، ولم ينف ذلك كون اللبث في المسجد شرطا فيه ، كذلك من شرطه الصوم وصحته بالليل مع عدم الصوم غير مانع أن يكون من شرطه ، وكذلك اللبث بمنى قربة لأجل الرمي ، ثم يكون اللبث بالليل بها قربة لرمي يفعله في غد ، كذلك الاعتكاف بالليل صحيح بصوم يستقبله في غد ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية