الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 332 ] التفسير في عصور التدوين

بدأ التدوين في أواخر عهد بني أمية ، وأوائل عهد العباسيين ، وحظي الحديث بالنصيب الأول في ذلك ، وشمل تدوين الحديث أبوابا متنوعة ، وكان التفسير بابا من هذه الأبواب ، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة ، وآية آية ، من مبدئه إلى منتهاه .

واشتدت عناية جماعة برواية التفسير المنسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى الصحابة ، أو إلى التابعين ، مع عنايتهم بجمع الحديث . وفي مقدمة هؤلاء : يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117 هجرية ، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هجرية ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هجرية ، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هجرية ، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة 205 هجرية ، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211 هجرية ، وآدم بن أبي إياس المتوفى سنة 220 هجرية ، وعبد بن حميد المتوفى سنة 249 هجرية .

ولم يصل إلينا من تفاسيرهم شيء ، وإنما روي ما نقل مسندا إليهم في كتب التفسير بالمأثور .

جاء بعد هؤلاء من أفرد التفسير بالتأليف وجعله علما قائما بنفسه منفصلا عن الحديث . ففسر القرآن حسب ترتيب المصحف ، وذلك كابن ماجه المتوفى سنة 273 هجرية ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية ، وأبي بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 هجرية . وابن أبي حاتم المتوفى سنة 327 هجرية ، وأبي الشيخ بن حبان المتوفى سنة 369 هجرية ، والحاكم المتوفى سنة 405 هجرية ، وأبي بكر بن مردويه المتوفى سنة 410 هجرية .

وتفاسير هؤلاء مروية بالإسناد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى الصحابة والتابعين ، وأتباع التابعين مع الترجيح أحيانا فيما يروى من آراء ، واستنباط بعض الأحكام ، والإعراب عند الحاجة ، كما فعل ابن جرير الطبري .

ثم جاء على أثر هؤلاء جماعة من المفسرين لم يتجاوزوا حدود التفسير بالمأثور ، [ ص: 333 ] ولكنهم اختصروا الأسانيد ، وجمعوا شتات الأقوال دون أن ينسبوها إلى قائليها ، وبهذا التبس الأمر ، ولم يتميز الصحيح من السقيم .

اتسعت العلوم ، وتم تدوينها ، وتشعبت فروعها ، وكثر الاختلاف ، وأثيرت مسائل الكلام ، وظهر التعصب المذهبي ، واختلطت علوم الفلسفة العقلية بالعلوم النقلية ، وحرصت الفرق الإسلامية على دعم مذهبها فأصاب التفسير من هذا الجو غباره ، وأصبح المفسرون يعتمدون في تفسيرهم على الفهم الشخصي ، ، ويتجهون اتجاهات متعددة ، وتحكمت فيهم الاصطلاحات العلمية ، والعقائد المذهبية ، والثقافة الفلسفية ، واهتم كل واحد من المفسرين بحشوه بما برز فيه من العلوم الأخرى ، فصاحب العلوم العقلية يعنى في تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة كفخر الدين الرازي . وصاحب الفقه يعنى بالفروع الفقهية كالجصاص والقرطبي ، وصاحب التاريخ يعنى بالقصص والأخبار كالثعلبي والخازن ، وصاحب البدعة يؤول كلام الله على مذهبه الفاسد ، كالرماني والجبائي ، والقاضي عبد الجبار والزمخشري من المعتزلة وملا محسن الكاشي من الإمامية الاثني عشرية . وصاحب التصوف يستخرج المعاني الإشارية كابن عربي .

هذا مع علوم النحو والصرف والبلاغة ، وهكذا أصبحت كتب التفسير تحمل في طياتها الغث والثمين ، والنافع والضار ، والصالح والفاسد . وحمل كل مفسر آيات القرآن ما لا تتحمله ، انتصارا لمذهبه ، وردا على خصومه ، وفقد التفسير وظيفته الأساسية في الهداية والإرشاد ومعرفة أحكام الدين .

وبذلك طغى التفسير بالرأي على التفسير بالأثر ، وتدرج التفسير في العصور المتتابعة على هذا النمط ، بنقل المتأخر عن المتقدم ، مع الاختصار تارة ، والتعليق أخرى ، حتى ظهرت أنماط جديدة في التفسير المعاصر ، حيث عني بعض المفسرين بحاجات العصر ، وتناولوا في تفسيرهم الكشف عما تضمنه القرآن الكريم من أسس الحياة الاجتماعية ، ومبادئ التشريع ، ونظريات العلوم ، كتفسير الجواهر ، وتفسير المنار ، والظلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية