الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) فالمعنى أنه تعالى بشر عيسى - عليه السلام - بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة ، والدرجات الرفيعة العالية ، وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به ، وبين الجاحدين برسالته ، وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية ، وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) [ النساء : 157 ] ، والأخبار أيضا واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه ، وتارة يروى أنه - عليه السلام - رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقى شبهه عليه حتى يقتل مكانه ، وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات :

                                                                                                                                                                                                                                            الإشكال الأول : أنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة ، فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانيا فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانيا ليس بولدي ، بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات ، وأيضا فالصحابة الذين رأوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع ، وأيضا فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة ، وآخره إبطال النبوات بالكلية .

                                                                                                                                                                                                                                            والإشكال الثاني : وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل - عليه السلام - بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله : ( إذ أيدتك بروح القدس ) [ المائدة : 110 ] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل - عليه السلام - كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه ؟ وأيضا أنه - عليه السلام - لما كان قادرا على إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والإشكال الثالث : أنه تعالى كان قادرا على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره ، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه [ ص: 63 ] هو عيسى مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس ، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            والإشكال الخامس : أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام ، وغلوهم في أمره ، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا ، فلو أنكرنا ذلك كان طعنا فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم ، ونبوة عيسى ، بل في وجودهما ، ووجود سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وكل ذلك باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            والإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيا زمانا طويلا ، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع ، ولقال : إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره ، ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم ، فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن كل من أثبت القادر المختار ، سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنسانا آخر على صورة زيد مثلا ، ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثاني : أن جبريل - عليه السلام - لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى - عليه السلام - على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث ، فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقى شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة ، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيدا للعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى - عليه السلام - عليه كان مسلما وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة ، وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع ، والله ولي الهداية .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية