الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

687 - عن زيد بن أسلم - رضي الله عنه - ، قال : عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة ، ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة ، فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس ، فاستيقظ القوم ، وقد فزعوا ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي ، وقال : ( إن هذا واد به شيطان ) . فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي ، ثم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا ، وأن يتوضئوا ، وأمر بلالا أن ينادي للصلاة - أو يقيم - ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، ثم انصرف وقد رأى من فزعهم ، فقال : يا أيها الناس ، إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا ; فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ، ثم فزع إليها ، فليصلها كما كان يصليها في وقتها ) ، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر الصديق ، فقال : ( إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه ، ثم لم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام ) .

التالي السابق


الفصل الثالث

687 - ( عن زيد بن أسلم ) تابعي ، مولى عمر بن الخطاب ، قاله الطيبي ( قال : عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ) فيه تجريد أو تأكيد ، فإن التعريس نزول الليل أو آخره ( بطريق مكة ) قال ابن حجر : هذا يدل على أن هذه القضية غير الأولى ، لأن تلك بين خيبر والمدينة ، وهذه بين مكة والمدينة ( ووكل بلالا ) أي : أمره ( أن يوقظهم للصلاة ) أي : لصلاة الصبح ، وخص بلالا بذلك ; لأن المؤذن هو الذي يرقب الوقت ويحرسه ( فرقد بلال ) أي : بعدما سهر مدة وغلبه النوم ( ورقدوا ) أي : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمادا على بلال ( حتى استيقظوا ) أي : كلهم جميعا ، وأولهم أفضلهم ( وقد طلعت عليهم الشمس ) الجملة حالية ( فاستيقظ القوم ) قال الطيبي : كرره لينيط به قوله ( فقد فزعوا ) أي : من فوات الصبح ( فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبوا ) أي : أن يرحلوا ( حتى يخرجوا من ذلك الوادي ، وقال : ( إن هذا واد به شيطان ) أي : مسلط أو شيطان عظيم ( فركبوا ) أي : وساروا ( حتى خرجوا من ذلك الوادي ، ثم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا ، وأن يتوضئوا ، وأمر بلالا أن ينادي ) أي : يؤذن أو يعلم للصلاة ( - أو يقيم - ) أي : بعد الأذان ، فأو للشك ، أو بمعنى الجمع المطلق كالواو على ما قاله الكوفيون والأخفش والجرمي كما نقله [ في ] المغني ، ويؤيده ما ذكره ابن الهمام أن في أبي داود وغيره ، أنه عليه السلام أمر بلالا بالأذان والإقامة . قلت : لا قال الشيخ الألباني في المشكاة : أن الجمع أفضل ، فالحمل عليه أولى وأكمل ، ولما قدمناه في الفصل الأول . ( فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ) أي : قضى صلاة الصبح جماعة ( ثم انصرف ) أي : عن الصلاة ( وقد رأى من فزعهم ) أي : أدرك بعض فزعهم ، أو رأى عليهم بعض آثار خوفهم وهيبتهم من الله تعالى لما حسبوا أن في النوم تقصيرا ، وأما قول ابن حجر ، أي شيئا كثيرا كما : انظر دلائل النبوة ح عليه السياق ، فغير ظاهر من السباق واللحاق ( فقال ) تسلية لهم وتسكينا لفزعهم ( يا أيها الناس ، إن الله قبض أرواحنا ) كما يدل عليه قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها

[ ص: 580 ] قال الطيبي : فيه تسلية للقوم مما فزعوا منه ، وأن تلك الغفلة كانت بمشيئة الله - تعالى - قلت : هذا احتجاج بالقدر ، وحسنه خوفهم مع عدم تقصيرهم في تأخيرهم حيث لا حرج في النوم ، سيما مع الاحتراس بأمر بلال لإيقاظ الناس ( ولو شاء ) أي : أن يردها إلينا في حين قبل هذا الوقت ( لردها إلينا في حين غير هذا ) بالجر على الصفة ، وقيل : بالنصب على الاستثناء أي : غير هذا الحين ، وهو يحتمل قبل طلوع الشمس من تلك الليلة ، وهو الظاهر ، فيكون القبض والرد كلاهما مجازا ، ويحتمل يوم القيامة . قال الطيبي : إشارة إلى الموت الحقيقي الذي ينبه عليه قوله تعالى : فيمسك التي قضى عليها الموت وقوله : إن الله قبض أرواحنا إشارة إلى الموت المجازي في قوله تعالى : ويرسل الأخرى أي : التي لم تمت في منامها . ( فإذا رقد أحدكم ) أي : غافلا وذاهلا ( عن الصلاة أو نسيها ) يحتمل أن يكون شكا من الراوي ، وأن يكون تنويعا في الحديث أي : غفل عنها بسبب النوم أو نسيها بأمر آخر قاله الطيبي ، والأظهر التنويع لفظا ومعنى ، فإن لو كان للشك لقال أو نسي ليكون بدلا عن رقد ، أو قال : نسي أحدكم الصلاة ليكون بدلا عن الكل ، ولما تقدم من رواية : " من نسي الصلاة أو نام عنها " ، وأما قول ابن حجر أو للتنويع لا للشك خلافا لمن زعمه ، لأن النسيان خلاف النوم فلا يجدي نفعا ( ثم فزع إليها ) قال الطيبي : ضمن ( فزع ) معنى التجأ فعدي ب ( إلى ) أي : التجأ إلى الصلاة فزعا يعني التجأ من تركها إلى فعلها ، كقوله تعالى : ففروا إلى الله أي : مما سوى الله ( فليصلها ) أي : حين قضاها ( كما كان يصليها في وقتها ) وظاهره أنه يجهر في الجهرية ويسر في السرية خلافا لبعض علمائنا حيث قال : وخافت حتما إن قضى ( ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي : من القوم ( إلى أبي بكر الصديق ) فإنه لهم رئيس على التحقيق ، وللنبي صديق وصديق ، ففي التفاته غاية التفات ونهاية نوع من الخصوصيات ( فقال : ( إن الشيطان ) أي : شيطان الوادي ، أو شيطان بلال ، أو الشيطان الكبير ( أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه ) أي : أسنده لما تقدم في الحديث السابق ، ويمكن أنه اضطجع في هذه القضية ، ولم يدر أيهما اللاحق ( ثم لم يزل يهدئه ) من الإهداء أي : يسكنه وينومه . في النهاية : الهدوء والسكون عن الحركات من المشي والاختلاف في الطريق ( كما يهدأ الصبي ) بالبناء للمفعول . قال الطيبي : يقال : أهدأت الصبي وأسكنته وذلك بأن يضرب كفه عليه حتى يسكن وينام ( حتى نام ) .

فإن قلت : كيف أسند تلك الغفلة ابتداء إلى الله سبحانه وتعالى في قوله عليه السلام : إن الله قبض أرواحنا ، وفي قول بلال : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك . ثم أسندها إلى الشيطان ، أجيب بأنه مسألة خلق الأفعال . أي : أراد الله تعالى خلق النوم والنسيان فيهم ، فمكن الشيطان من اكتساب ما هو جالب للغفلة أو النوم من الهدوء وغيره .

( ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا ، فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، فقال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله ) قال الطيبي : في الحديث إظهار معجزة ، ولذا صدقه الصديق - رضي الله عنه - بالشهادة . ( رواه مالك ) أي : في الموطأ ( مرسلا ) لما تقدم أن زيدا تابعي .

[ ص: 581 ]



الخدمات العلمية