الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون )

                                                                                                                                                                                                                                            أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول - صلى الله عليه وسلم ، وكان من جملة شبههم أن قالوا : يا محمد ، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى ، فقال : إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابنا لله تعالى ، فكذا القول في عيسى عليه السلام ، هذا حاصل الكلام ، وأيضا إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            بل هذا أقرب إلى العقل ، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس ، هذا تلخيص الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم هاهنا مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ( مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) أي صفته كصفة آدم ، ونظيره قوله تعالى : ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) [ الرعد : 35 ] أي صفة الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله تعالى : ( خلقه من تراب ) ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم ، قال الزجاج : هذا كما تقول في الكلام : مثلك كمثل زيد ، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ، ثم تخبر بقصة زيد فتقول : فعل كذا وكذا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقا بوالد لا إلى أول وهو محال ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم - عليه السلام - كما في هذه الآية ، وقال : ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ) [ النساء : 1 ] ، وقال : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ) [ الأعراف : 189 ] ، ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوها كثيرة :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه مخلوق من الماء ، قال الله تعالى : ( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا ) [ الفرقان : 54 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه مخلوق من الطين ، قال الله تعالى : ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) [ السجدة : 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أنه مخلوق من سلالة من طين قال تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ ص: 67 ] ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) [ المؤمنون : 13 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أنه مخلوق من طين لازب ، قال تعالى : ( إنا خلقناهم من طين لازب ) [ الصافات : 11 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : أنه مخلوق من صلصال ، قال تعالى : ( إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ) [ الحجر : 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : أنه مخلوق من عجل ، قال تعالى : ( خلق الإنسان من عجل ) [ الأنبياء : 37 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن : قال تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) [ البلد : 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الحكماء فقالوا : إنما خلق آدم - عليه السلام - من تراب لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ليكون متواضعا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : ليكون ستارا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : ليكون أشد التصاقا بالأرض ، وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض ، قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) [ البقرة : 30 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة ، وخلق آدم - عليه السلام - من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية ، وخلق السماوات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهانا باهرا ودليلا ظاهرا على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج ، والخالق بلا مزاج وعلاج .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشهوة ، والغضب ، والحرص ، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافيا تتجلى فيه صور الأشياء ، ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طينا وهو قوله : ( إني خالق بشرا من طين ) [ ص : 71 ] ، ثم إنه في المرتبة الرابعة قال : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين ، ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه من صلصال ، والصلصال : اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة ، وتغير لونه إلى السواد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : تغير رائحته ، قال تعالى : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) [ البقرة : 259 ] أي لم يتغير .

                                                                                                                                                                                                                                            فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية