الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 330 ] ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لو وسعت لنا أودية مكة بالقرآن ، وسيرت جبالها فاحترثناها ، وأحييت من مات منا ، فنزلت هذه الآية ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال الزبير بن العوام : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا فنزرع ، أو يحيي لنا موتانا فنكلمهم ، أو يصير هذه الصخرة ذهبا فتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فقد كان للأنبياء آيات ، فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون [الإسراء :59] . ومعنى قوله : " أو قطعت به الأرض " أي : شققت فجعلت أنهارا ، " أو كلم به الموتى " أي : أحيوا حتى كلموا .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في جواب " لو " على قولين

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه محذوف . وفي تقدير الكلام قولان : أحدهما : أن تقديره : لكان هذا القرآن ، ذكره الفراء ، وابن قتيبة . قال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم . والثاني : أن تقديره : لو كان هذا كله لما آمنوا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 331 ] ودليله قوله تعالى : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة . . . إلى آخر الآية [الأنعام :111] ، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن جواب " لو " مقدم ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن ، ولو أنزلنا عليهم ما سالوا ، ذكره الفراء أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " بل لله الأمر جميعا " أي : لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا ، وإذا لم يشأ ، لم ينفع ما اقترحوا من الآيات . ثم أكد ذلك بقوله : " أفلم ييأس الذين آمنوا " وفيه أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أفلم يتبين ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وروى عنه عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك ، ويقول : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة ، وأبي مالك ، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أفلم يعلم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . وقال ابن قتيبة : ويقال : هي لغة للنخع " ييأس " بمعنى " يعلم " قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم



                                                                                                                                                                                                                                      وإنما وقع اليأس في مكان العلم ، لأن في علمك الشيء وتيقنك به يأسك من غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 332 ] والثالث : أن المعنى : قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا واحدا ، ولو شاء الله لهدى الناس جميعا ، قاله أبو العالية .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : أفلم ييأس الذين آمنوا أن يؤمن هؤلاء المشركون ، قاله الكسائي . وقال الزجاج : المعنى عندي : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم لا يؤمنون ، لأنه لو شاء لهدى الناس جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولا يزال الذين كفروا " فيهم قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنهم جميع الكفار ، قاله ابن السائب . والثاني : كفار مكة ، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما القارعة ، فقال الزجاج : هي في اللغة : النازلة الشديدة تنـزل بأمر عظيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المراد بها هاهنا قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنها عذاب من السماء ، رواه العوفي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : السرايا والطلائع التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : " أو تحل قريبا من دارهم " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : أو تحل أنت يا محمد ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنها القارعة ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : حتى يأتي وعد الله قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : فتح مكة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : القيامة ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية