الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3166 قال : وقال ابن كثير : عن سفيان ، عن أبيه ، عن ابن أبي نعم ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : بعث علي - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهيبة ، فقسمها بين الأربعة : الأقرع بن حابس الحنظلي ، ثم المجاشعي ، وعيينة بن بدر الفزاري ، وزيد الطائي ، ثم أحد بني نبهان ، وعلقمة بن علاثة العامري ، ثم أحد بني كلاب ، فغضبت قريش والأنصار ، قالوا : يعطي صناديد أهل نجد ، ويدعنا قال : إنما أتألفهم فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين ، كث اللحية محلوق ، فقال : اتق الله يا محمد ، فقال : من يطع الله إذا عصيت أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنوني ، فسأله رجل قتله ، أحسبه خالد بن الوليد ، فمنعه ، فلما ولى قال : إن من ضئضئي هذا ، أو في عقب هذا قوم يقرؤون القرآن ، لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " لأقتلنهم قتل عاد .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : كيف المطابقة وعاد أهلكوا بريح صرصر ( قلت ) : التقدير كقتل عاد ، والتشبيه لا عموم له ، والغرض منه استئصالهم بالكلية كاستئصال عاد ; لأن الإضافة في قتل عاد إلى المفعول .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : إذا كان من الإضافة إلى الفاعل يكون المراد القتل الشديد القوي ; لأنهم كانوا مشهورين بالشدة والقوة ، وعلى التقديرين المراد استئصالهم بأي وجه كان ، وليس المراد التعيين بشيء .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم خمسة : الأول : ابن كثير ضد القليل ، وهو محمد بن كثير أبو عبد الله العبدي البصري .

                                                                                                                                                                                  الثاني : سفيان الثوري .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أبوه سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري الكوفي .

                                                                                                                                                                                  الرابع : ابن أبي نعم بضم النون وسكون العين المهملة البجلي ، واسم الابن عبد الرحمن أبو الحكم البجلي الكوفي العابد ، وكان من عباد أهل الكوفة ممن يصبر على الجوع الدائم أخذه الحجاج ليقتله ، وأدخله بيتا ظلما ، وسد الباب خمسة عشر يوما ، ثم أمر بالباب ففتح ليخرج ويدفن فدخلوا عليه ، فإذا هو قائم يصلي ، فقال له الحجاج : سر حيث شئت ، وأما اسم أبي نعم فما وقفت عليه .

                                                                                                                                                                                  الخامس : أبو سعيد الخدري ، واسمه سعد بن مالك بن سنان الأنصاري .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 229 ] ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في التفسير ، عن محمد بن كثير مختصرا ، وفي التوحيد بتمامه ، عن قبيصة بن عقبة ، وفي التوحيد أيضا عن إسحاق بن نصر ، وفي المغازي عن قتيبة ، وأخرجه مسلم في الزكاة عن قتيبة به ، وعن هناد بن السري ، وعن عثمان بن أبي شيبة ، وعن محمد بن عبد الله بن نمير ، وأخرجه أبو داود في السنة عن محمد بن كثير به ، وأخرجه النسائي في الزكاة ، وفي التفسير عن هناد به ، وفي المحاربة عن محمود بن غيلان .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : " قال " ، وقال ابن كثير : أي قال البخاري ، وقال محمد بن كثير كذا روي هنا معلقا ، ورواه في تفسير سورة براءة بقوله : حدثنا محمد بن كثير فوصله ، لكنه لم يسقه بتمامه ، وإنما اقتصر على طرف من أوله ، وابن كثير هذا هو أحد مشايخ البخاري ، روى عنه في الكتاب في مواضع ، وروى مسلم عن عبد الله الدارمي عنه ، عن أخيه حديثا في الرؤيا ، قوله : " بذهيبة " بالتصغير ، قال الخطابي : إنما أنثها على نية القطعة من الذهب ، وقد يؤنث الذهب في بعض اللغات ، وقال ابن الأثير : قيل هو تصغير على اللفظ ، وفي رواية مسلم : " بعث علي رضي الله تعالى عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بذهبة بفتح الذال ، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم عن الجلودي ، قال : وفي رواية ابن ماهان بذهيبة على التصغير ، وقال ابن قرقول : قوله : " بعث بذهب " ، كذا الرواية عن مسلم عند أكثر شيوخنا ، ويقال : الذهب يؤنث والمؤنث الثلاثي إذا صغر ألحق في تصغيره الهاء نحو : فريسة وشميسة ، قوله : " فقسمها بين الأربعة " : أي بين أربعة أنفس .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية مسلم فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة نفر ، قوله : " الأقرع بن حابس " يجوز بالرفع والجر ، أما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف : أي أحدهم الأقرع ، وأما الجر فعلى أنه وما بعده من المعطوف بدل من الأربعة ، أو بيان ، والأقرع بفتح الهمزة وسكون القاف وبالراء وبالعين المهملة ابن حابس بالحاء المهملة وكسر الباء الموحدة وبالسين المهملة ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع المجاشعي الدارمي أحد المؤلفة قلوبهم ، قال ابن إسحاق : الأقرع بن حابس التميمي ، قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عطارد بن حاجب في أشراف بني تميم بعد فتح مكة ، وقد كان الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، شهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنينا والطائف .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن دريد : اسم الأقرع فراس ، وفي التوضيح بخط منصور بن عثمان الخابوري الصواب حصين ، وقال أبو عمر في باب الفاء من الاستيعاب : فراس بن حابس أظنه من بني العنبر ، قدم على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - في وفد بني تميم ، وفي التوضيح في كتاب لطائف المعارف لأبي يوسف كان الأقرع أصم مع قرعه وعوره ، وفي الكامل كان في صدر الإسلام سيد خندف ، وكان محله فيها محل عيينة بن حصن في قيس ، وقال المرزباني : هو أول من حرم القمار ، وكان يحكم في كل موسم ، وقال الجاحظ في كتاب العرجان : إنه كان من أشرافهم ، وأحد الفرسان الأشراف ساير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من فتح مكة .

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عبيدة : كان أعرج الرجل اليسرى قتل باليرموك سنة ثلاث عشرة مع عشرة من بنيه ، وقال ابن دريد استعمله عبد الله بن عامر بن كريز على جيش أنفذه إلى خراسان ، فأصيب بالجوزجان ، قوله : " الحنظلي ثم المجاشعي " الحنظلي نسبة إلى حنظل بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، والمجاشعي نسبة إلى مجاشع بن دام بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وعيينة بن بدر " : أي الثاني من الأربعة عيينة مصغر عينة بن بدر ، وفي مسلم عيينة بن حصن ( قلت ) : بدر جده ، وحصن أبوه ففي رواية البخاري ذكره منسوبا إلى جده ، وفي رواية مسلم ذكره منسوبا إلى أبيه حصن بن بدر بن عمرو بن حويرثة بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان .

                                                                                                                                                                                  قوله : " الفزاري " بفتح الفاء وتخفيف الزاي وبالراء نسبة إلى فزارة المذكورة في نسبه ، وفي التوضيح عيينة اسمه حذيفة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، ولقب عيينة ; لأنه طعن في عينه ، وكنيته أبو مالك أسلم قبل الفتح ، وارتد مع طليحة بن خويلد ، وقاتل معه ، وتزوج عثمان بابنته وهو عريق في الرياسة ، وهو المقول فيه الأحمق المطاع ، قوله : " وزيد الطائي " ، وفي مسلم ، وزيد الخير الطائي ، ثم أحد بني نبهان قال النووي : قال في هذه الرواية زيد الخير الطائي ، كذا هو في جميع النسخ الخير بالراء ، وقال في رواية زيد الخيل باللام ، وكلاهما صحيح يقال بالوجهين ، كان يقال له في الجاهلية زيد الخيل فسماه رسول الله [ ص: 230 ] - صلى الله عليه وسلم - : زيد الخير ; لأنه لم يكن في العرب أكثر من خيله ، وقال أبو عبيد : وكان له شعر ، وخطابة وشجاعة وكرم ، توفي لما انصرف من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحمى ، وقيل : توفي في آخر خلافة عمر - رضي الله تعالى عنه - ، وقال أبو عمر : زيد الخيل هو زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي ، قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ، وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير ، وأقطع له أرضين في ناحيته ، يكنى أبا منذر .

                                                                                                                                                                                  وفي كتاب أبي الفرج : توفي بماء الحرم يقال له : فردة ، وقيل : لما دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرح له متكأ فأعظم أن يتكئ عليه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرده فأعاده ثلاثا ، وعلمه دعوات كان يدعو بها فيعرف بها الإجابة ، ويستسقي فيسقي ، وقال : يا رسول الله أعطني مائة فارس أغزو بهم على الروم ، فلم يلبث بعد انصرافه إلا قليلا حتى حم ، ومات ، وكان في الجاهلية ، أسر عامر بن الطفيل ، وجز ناصيته ، ثم أعتقه ، وقال ابن دريد : وكان لا يدخل مكة إلا معتما من خيفة النساء عليه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ثم أحد بني نبهان " بفتح النون وسكون الباء الموحدة ، ونبهان هو ابن أسودان بن عمرو بن الغوث بن طي ، قال الرشاطي : من بني نبهان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب بن عبد إحنا بن محيلس بن ثوب بن مالك بن نابل بن أسودان بن نبهان ، كان من أجمل الناس وأتمهم ، ولما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " من أنت ؟ قال : أنا زيد الخيل ، قال : أنت زيد الخير " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وعلقمة بن علاثة " بضم العين المهملة وتخفيف اللام وبالثاء المثلثة ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، كان من أشراف قومه حليما عاقلا ، ولم يكن فيه ذلك الكرم ، وارتد لما رجع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى الطائف ، ثم أسلم أيام الصديق - رضي الله تعالى عنه - وحسن إسلامه ، واستعمله عمر - رضي الله تعالى عنه - على حوران فمات بها .

                                                                                                                                                                                  قوله : " العامري " نسبة إلى عامر بن صعصعة بن مالك بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان ، قوله : " ثم أحد بني كلاب " هذا هو المذكور الآن هو كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن إلى آخر ما ذكرناه ، قوله : " فغضبت قريش والأنصار " ، وليس في رواية مسلم والأنصار .

                                                                                                                                                                                  قوله : " صناديد " أريد بهم الرؤساء ، وهو جمع صنديد بكسر الصاد ، قوله : " ويدعنا " بالياء آخر الحروف ، وكذلك في قوله : يعطي بالياء ، وفي رواية مسلم : أتعطي صناديد نجد ، وتدعنا بتاء الخطاب في الموضعين والهمزة في أتعطي للاستفهام على سبيل الإنكار ، ومعنى تدعنا تتركنا والنجد بفتح النون وسكون الجيم ، وهو ما بين الحجاز إلى الشام إلى العذيب ، فالطائف من نجد ، والمدينة من نجد ، وأرض اليمامة والبحرين إلى عمان إلى العروض .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن دريد : نجد بلد للعرب ، وإنما سمي نجدا لعلوه عن انخفاض تهامة ، قوله : " إنما أتألفهم " من التألف وهو المداراة والإيناس ليثبتوا على الإسلام رغبة فيما يصل إليهم من المال ، قوله : " فأقبل رجل " ، وفي رواية مسلم : " فجاء رجل " ، هذا الرجل من بني تميم ، يقال له : ذو الخويصرة ، واسمه حرقوص بن زهير ، قيل : ولقبه ذو الثدية ، وقال ابن الأثير في كتاب الأذواء : ذو الثدية أحد الخوارج الذين قتلهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بحروراء من جانب الكوفة ، وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وآية ذلك أن فيهم رجلا أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، ومثل البضعة يدردر أو يقال له : ذو الثدي أيضا وذو الثدية ، وهو حبشي ، واسمه نافع ، قوله : " غائر العينين " : أي غارت عيناه فدخلتا وهو ضد الجاحظ .

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : غائر العينين : أي داخلتين في الرأس لاصقتين بقعر الحدقة ، قوله : " مشرف الوجنتين " : أي غليظهما ، ويقال : أي ليس بسهل الخد ، وقد أشرفت وجنتاه : أي علتا ، وأصله من الشرف وهو العلو ، والوجنتان العظمان المشرفان على الخدين ، وقيل : لحم الجلد ، وكل واحدة وجنة ، فإذا عظمتا فهو موجن ، والوجنة مثلثة الواو ، حكاها يعقوب ، وبالألف بدل الواو ، فهذه أربع لغات ، وقال ابن جني : أرى الرابعة على البدل ، وفي الجيم لغتان : فتحها وكسرها حكاهما في البارع عن كراع ، والإسكان هو الشائع ، فصار ثلاث لغات في الجيم ، وقال ثابت : هما فوق الخدين إذا وضعت يدك وجدت حجم العظم تحتها وحجم نتوه ، وقال أبو حاتم : هو ما نتئ من لحم الخدين بين الصدغين وكنفي الأنف ، قوله : " ناتئ الجبين " : أي مرتفعه وقيل : مرتفع على ما حوله .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : الجبين جانب الجبهة ، ولكل إنسان جبينان يكتنفان الجبهة ، قوله : " كث اللحية " يعني كثير شعرها غير مسبلة والكث بفتح الكاف ، وقال ابن الأثير : الكثاثة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة ، وفيها كثافة يقال : رجل كث [ ص: 231 ] اللحية بفتح الكاف ، وقوم كث بالضم ، قوله : " محلوق " ، وفي مسلم : " محلوق الرأس " ، وفي الكامل للمبرد : رجل مضطرب الخلق أسود وأنه يكون لهذا ولأصحابه نبأ ، وفي التوضيح ، وفي الحديث أنه لا يدخل النار من شهد بدرا ولا الحديبية ، حاشا رجلا معروفا منهم ، قيل : هو حرقوص ، ذكره شيخنا العمري ، وفي التعليق أنه أصول الخوارج ، قوله : " من يطع الله إذا عصيت " : أي إذا عصيته ، وفي مسلم : " من يطع الله إن عصيته" ، قوله : " فسأله رجل قتله " : أي فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل قتل هذا القائل ، قوله : " أحسبه " : أي أظن أن هذا السائل هو خالد بن الوليد ، كذا جاء هنا على الحسبان ، وجاء في الصحيح أنه خالد من غير حسبان ، وفي رواية أخرى أنه عمر بن الخطاب ، ولا تنافي في هذا ; لأنهما كأنهما سألا جميعا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فمنعه " : أي منع خالدا عن القتل ، وذلك لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ، فهذه هي العلة ، وسلك معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه ، وسمع منهم في غير موطن ما كرهه ، ولكنه صبر استبقاء لانقيادهم وتأليفا لغيرهم حتى لا ينفروا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " من ضئضئي " بكسر الضادين المعجمتين وسكون الهمزة الأولى وهو الأصل والعقب ، وحكي إهمالهما عن بعض رواة مسلم ، فيما حكاه القاضي ، وهو شائع في اللغة ، وقال ابن سيده : الضئضئي والضؤضؤ الأصل ، وقيل : هو كثرة النسل ، وقال في المهملة : الصئصئي والسئصئي كلاهما الأصل عن يعقوب ، وحكى بعضهم صئصئين بوزن قنديل ، حكاه ابن الأثير ، وقال النووي : قالوا لأصل الشيء أسماء كثيرة منها الضئضئي بالمعجمتين والمهملتين ، والنجار بكسر النون والنحاس والسنخ بكسر السين وإسكان النون وبخاء معجمة ، والعيص والأرومة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " حناجرهم " جمع حنجرة هي رأس العلصمة حيث تراه ناتئا من خارج الحلق ، وقال ابن التين : معناه لا يرفع في الأعمال الصالحة ، وقال عياض : لا تفقه قلوبهم ولا ينتفعون بما يتلون منه ، ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم ، وقيل : معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا تتقبل .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يمرقون من الدين " ، وفي رواية : " من الإسلام " : أي يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ من الصيد من جهة أخرى ، ولم يتعلق بالسهم من دمه شيء ، وبهذا سميت الخوارج المراق ، والدين هنا : الطاعة ، يريد أنهم يخرجون من طاعة الأئمة كخروج السهم من الرمية ، والرمية بفتح الراء على وزن فعيلة من الرمي بمعنى مفعوله ، فقال الداودي : الرمية الصيد المرمي ، وهذا الذي ذكره صفات الخوارج الذين لا يدينون للأئمة ، ويخرجون عليهم ، قوله : " يقتلون أهل الإسلام " كذلك فعل الخوارج ، قوله : " ويدعون " : أي يتركون أهل الأوثان ، وهو جمع وثن ، وهو كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض ، أو من الخشب والحجارة ، كصورة الآدمي يعمل وينصب فيعبد ، وهذا بخلاف الصنم فإنه الصورة بلا جثة ، ومنهم من لم يفرق بينهما .

                                                                                                                                                                                  قيل : لما خرج إليهم عبد الله بن خباب رسولا من عند علي - رضي الله عنه - فجعل يعظهم فمر أحدهم بتمرة لمعاهد ، فجعلها في فيه فقال بعض أصحابه : تمرة معاهد فبم استحللتها ؟ فقال لهم عبد الله بن خباب : أنا أدلكم على ما هو أعظم حرمة رجل مسلم ، يعني نفسه ، فقتلوه ، فأرسل إليهم علي - رضي الله عنه - أن أقيدونا به ، فقالوا : كيف نقيدك به وكلنا قتله ؟ فقاتلهم علي ، فقتل أكثرهم ، قيل : كانوا خمسة آلاف ، وقيل : كانوا عشرة آلاف .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " قد ذكرنا معناه عند ذكر المطابقة بين الحديث والترجمة ، ويروى قتل ثمود .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : أليس قال : لئن أدركتهم ، وكيف ولم يدع خالدا - رضي الله تعالى عنه - أن يقتله وقد أدركه ؟ قلت : إنما أراد إدراك زمان خروجهم إذا كثروا ، وامتنعوا بالسلاح ، واعترضوا الناس بالسيف ولم تكن هذه المعاني مجتمعة إذ ذاك فيوجد الشرط الذي علق به الحكم ، وإنما أنذر - صلى الله عليه وسلم - أن يكون في الزمان المستقبل ، وقد كان كما قال - صلى الله عليه وسلم - فأول ما يحم هو في أيام علي - رضي الله تعالى عنه - .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : المال الذي أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك المؤلفة قلوبهم من أي مال كان ؟ قلت : قال بعضهم : من خمس الخمس ، ورد بأنه ملكه ، وقيل : من رأس الغنيمة ، وأنه خاص به لقوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول ورد بأن الآية منسوخة وذلك أن الأنصار لما انهزموا يوم حنين فأيد الله رسوله ، وأمده بالملائكة فلم يرجعوا حتى كان الفتح رد الله الغنائم إلى رسوله من أجل ذلك ، فلم يعطهم منها شيئا ، وطيب نفوسهم بقوله : " وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم " بعدما فعل ما أمر به ، واختيار أبي عبيدة أنه كان من الخمس لا من خمس الخمس ، ولا من رأس الغنيمة ، وأنه جائز للإمام أن يصرف للأصناف المذكورة في آية الخمس حيث يرى أن فيه مصلحة للمسلمين ، ولكن ينبغي أن يعلم أولا أن هذا الذهب ليس من غنيمة حنين ولا خيبر ، ولا من الخمس ، وقد فرقها كلها .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية