الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة السادسة والعشرون

                        إن هاهنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه ، وذلك أنه لما أخبر عليه الصلاة والسلام أن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة ، وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر ، فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها - سؤال التعيين - فقالوا : من هي يا رسول الله ؟ فأصل الجواب أن يقال : أنا وأصحابي ، ومن عمل مثل عملنا . أو ما أشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة ، إما بالإشارة أو بوصف من أوصافها . إلا أن [ ص: 799 ] ذلك لم يقع ، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف ، فلذلك أتى بما أتى ، فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها ، والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ . والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى ، لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية ، فقال : ما أنا عليه وأصحابي .

                        ومما جاء غير مطابق في الظاهر وهو في المعنى مطابق قول الله تعالى : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ فإن هذا الكلام معناه : هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا ؟ فكأنه قيل : نعم ! أخبرنا ، فقال الله تعالى : للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار الآية . أي للذين اتقوا استقر لهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار الآية . فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه . وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين .

                        وقال تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار الآية . فقوله : مثل الجنة يقتضي المثل لا الممثل ، كما قال تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولأنه كلما كان المقصود الممثل جاء به بعينه .

                        ويمكن أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية ، كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية ، لا عن نفس الفرقة . [ ص: 800 ] لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها . فالمتقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل ، فلو سألوا : ما وصفها ؟ أو ما عملها ؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى ، فلما فهم عليه الصلاة والسلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك .

                        ونقول : لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم ، أتى به جوابا عن سؤالهم ، حرصا منه عليه الصلاة والسلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه .

                        ويمكن أن يقال : إن ما سألوا عنه لا يتعين ، إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر ، إذ كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير .

                        ومن شأن هذا السؤال التعيين، وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين ، وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع ، وهو ما كان عليه هو وأصحابه .

                        وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم ، وهو بالنسبة إلى السائل معين ، لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين ، فلم يحتج إلى أكثر من ذلك ، لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر ، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم ، ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود . والله أعلم . انتهى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية