الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
السادس : أن القراءات لم تكن متميزة عن غيرها إلا في قرن الأربعمائة ، جمعها أبو بكر بن مجاهد ، ولم يكن متسع الرواية والرحلة كغيره ، والمراد بالقراءات السبع المنقولة عن الأئمة السبعة :

[ ص: 476 ] أحدهم : عبد الله بن كثير المكي القرشي مولاهم ، أبو سعيد ، وقيل : أبو محمد ، وقيل : أبو بكر ، وقيل : أبو الصلت ، ويقال له الداري ، وهو من التابعين ، وسمع عبد الله بن الزبير وغيره ، توفي بمكة سنة عشرين ومائة ، وقيل : اثنتين وعشرين .

الثاني : نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ; مولى جعونة بن شعوب الليثي ، هو مدني ، أصله من أصبهان ، كنيته أبو رويم ، وقيل : أبو الحسن ، وقيل : أبو عبد الرحمن ، وقيل : أبو عبد الله ، توفي بالمدينة سنة تسع وستين ومائة .

الثالث : عبد الله بن عامر بن يزيد بن ربيعة اليحصبي الدمشقي قاضي دمشق ، وهو من كبار التابعين ، ولد في أول سنة إحدى وعشرين من الهجرة ، وتوفي بدمشق يوم عاشوراء سنة ثمان عشرة ومائة ، وقيل : ولد سنة ثمان من الهجرة ، ومات وهو ابن مائة وعشر سنين ، وفي كنيته سبعة أقوال ; أصحها : أبو عمرو ، وقيل : أبو محمد ، وأبو عبد الله ، وأبو موسى ، وأبو نعيم ، وأبو عثمان ، وأبو مغيث .

الرابع : أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن عبد الله البصري ، قيل : اسمه زبان ، وقيل : يحيى ، وقيل : عثمان ، وقيل : محبوب ، وقيل : اسمه كنيته ، توفي بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة ، وقرأ على ابن كثير وغيره .

الخامس : عاصم بن أبي النجود - بفتح النون - أبو بكر الأسدي الكوفي ، توفي بالكوفة سنة سبع ، وقيل : ثمان وعشرين ومائة ، قال سفيان وأحمد بن حنبل وغيرهما : بهدلة هو أبو النجود ، وقال عمرو بن علي : بهدلة أمه ، قال أبو بكر بن أبي داود : هذا خطأ .

وقال عبد الله بن أحمد : قال أبي : أنا أختار قراءة عاصم .

[ ص: 477 ] السادس : حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات ، التيمي ، مولاهم ، الكوفي ، أبو عمارة ، توفي بحلوان سنة ثمان ، وقيل : ست وخمسين ومائة .

السابع : الكسائي ، علي بن حمزة الأسدي مولاهم ، الكوفي ، توفي سنة تسع وثمانين ومائة ، كان قرأ على حمزة ، قال مكي : " وإنما ألحق بالسبعة في أيام المأمون ; وإنما كان السابع يعقوب الحضرمي ، فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها الكسائي في موضع يعقوب .

وليس في هؤلاء السبعة من العرب إلا ابن عامر وأبو عمرو .

قال مكي : " وإنما كانوا سبعة لوجهين :

أحدهما : أن عثمان - رضي الله عنه - كتب سبعة مصاحف ، ووجه بها إلى الأمصار ، فجعل عدد القراء على عدد المصاحف .

الثاني : أنه جعل عددهم على عدد الحروف التي نزل بها القرآن وهي سبعة ، على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمتنع ذلك ; إذ عدد الرواة الموثوق بهم أكثر من أن يحصى .

وقد ألف ابن جبير المقرئ - وكان قبل ابن مجاهد - كتابا في القراءات ، وسماه كتاب " الخمسة " ذكر فيه خمسة من القراء لا غير ، وألف غيره كتابا وسماه " الثمانية " ، وزاد على هؤلاء السبعة يعقوب الحضرمي . انتهى .

[ ص: 478 ] قلت : ومنهم من زاد ثلاثة ، وسماه كتاب " العشرة " .

قال مكي : والسبب في اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم أن عثمان - رضي الله عنه - لما كتب المصاحف ، ووجهها إلى الأمصار ، وكان القراء في العصر الثاني والثالث كثيري العدد ، فأراد الناس أن يقتصروا في العصر الرابع على ما وافق المصحف ، فنظروا إلى إمام مشهور بالفقه ، والأمانة في النقل ، وحسن الدين ، وكمال العلم ، قد طال عمره ، واشتهر أمره ، وأجمع أهل مصر على عدالته ، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا إماما هذه صفة قراءته على مصحف ذلك المصر ، فكان أبو عمرو من أهل البصرة ، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها ، والكسائي من العراق ، وابن كثير من أهل مكة ، وابن عامر من أهل الشام ، ونافع من أهل المدينة ، كلهم ممن اشتهرت إمامتهم ، وطال عمرهم في الإقراء ، وارتحل الناس إليهم من البلدان .

وأول من اقتصر على هؤلاء السبعة أبو بكر بن مجاهد ; سنة ثلاثمائة ، وتابعه الناس .

وألحق المحققون - منهم البغوي في " تفسيره " - بهؤلاء السبعة قراءة ثلاثة ، وهم يعقوب الحضرمي ، وخلف ، وأبو جعفر بن قعقاع المدني شيخ نافع ; لأنها لا تخالف رسم السبع .

[ ص: 479 ] وقال الإمام أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم الهروي في كتاب " الكافي " له : فإن قال قائل : فلم أدخلتم قراءة أبي حفص المدني ويعقوب الحضرمي في جملتهم ، وهم خارجون عن السبعة المتفق عليهم ؟ قلنا : إنما اتبعنا قراءتهما كما اتبعنا السبعة ; لأنا وجدنا قراءتهما على الشرط الذي وجدناه في قراءة غيرهما ممن بعدهما في العلم والثقة بهما ، واتصال إسنادهما ، وانتفاء الطعن عن روايتهما ، ثم إن التمسك بقراءة سبعة فقط ليس له أثر ولا سنة ، وإنما السنة أن تؤخذ القراءة إذا اتصلت روايتها نقلا وقراءة ولفظا ، ولم يوجد طعن على أحد من رواتها ، ولهذا المعنى قدمنا السبعة على غيرهم ، وكذلك نقدم أبا جعفر ويعقوب على غيرهما .

ولا يتوهم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : أنزل القرآن على سبعة أحرف انصرافه إلى قراءة سبعة من القراء يولدون [ من ] بعد عصر من الصحابة بسنين كثيرة ; لأنه يؤدي إلى أن يكون الخبر متعريا عن فائدة إلى أن يحدثوا ; ويؤدي إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرءوا إلا بما علموا أن السبعة من القراء يختارونه ، قال : وإنما ذكرناه لأن قوما من العامة يتعلقون به .

وقال الشيخ موفق الدين الكواشي : " كل ما صح سنده ، واستقام وجهه في العربية ، ووافق لفظه خط المصحف الإمام ، فهو من السبعة المنصوص عليها ، ولو رواه سبعون ألفا [ ص: 480 ] مجتمعين أو متفرقين . فهذا هو الأصل الذي بني عليه من قبول القراءات ، عن سبعة كان أو عن سبعة آلاف ، ومتى فقد واحد من هذه الثلاثة المذكورة في القراءة فاحكم بأنها شاذة ; ولا يقرأ بشيء من الشواذ ، وإنما يذكر ما يذكر من الشواذ ; ليكون دليلا على حسب المدلول عليه ، أو مرجحا .

وقال مكي : " وقد اختار الناس بعد ذلك ، وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذا اجتمع فيه ثلاثة أشياء : قوة وجه العربية ، وموافقته للمصحف ، واجتماع العامة عليه . والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة ; فذلك عندهم حجة قوية توجب الاختيار . وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين ، وربما جعلوا الاختيار ما اتفق عليه نافع وعاصم ; فقراءة هذين الإمامين أولى القراءات ، وأصحها سندا ، وأفصحها في العربية ، ويتلوها في الفصاحة خاصة قراءة أبي عمرو والكسائي .

وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة : " كل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل فيها ومجيئها على الفصيح من لغة العرب فهي قراءة صحيحة معتبرة ، فإن اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة ، أشار إلى ذلك جماعة من الأئمة المتقدمين ، ونص عليه الشيخ أبو محمد مكي بن أبي طالب القيرواني في كتاب مفرد صنفه في معاني القراءات السبع ، وأمر بإلحاقه بكتاب " الكشف " ، وذكره شيخنا [ ص: 481 ] أبو الحسن في كتابه " جمال القراء " .

قال أبو شامة رحمه الله : " وقد ورد إلى دمشق استفتاء من بلاد العجم عن القراءة الشاذة : هل تجوز القراءة بها ؟ وعن قراءة القارئ عشرا ، كل آية بقراءة قارئ ، فأجاب عن ذلك جماعة من مشايخ عصرنا ; منهم شيخا الشافعية والمالكية حينئذ ، وكلاهما أبو عمرو وعثمان - يعني ابن الصلاح - وابن الحاجب .

" قال شيخ الشافعية : يشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرآنا ، واستفاض نقله بذلك ، وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع ; لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول ; فما لم يوجد فيه ذلك ما عدا العشرة فممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة ; في الصلاة وخارج الصلاة ، وممنوع منه ممن عرف المصادر والمعاني ، ومن لم يعرف ذلك ، وواجب على من قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك ، وإنما نقلها من نقلها من العلماء لفوائد فيها تتعلق بعلم العربية ، لا للقراءة بها ; هذا طريق من استقام سبيله ، ثم قال : والقراءة الشاذة ما نقل قرآنا من غير تواتر واستفاضة متلقاة بالقبول من الأئمة ، كما يشتمل عليه " المحتسب " لابن جني وغيره ، وأما القراءة بالمعنى على تجويزه من غير أن ينقل قرآنا فليس ذلك من القراءة [ ص: 482 ] الشاذة أصلا ; والمتجرئ على ذلك متجرئ على عظيم ، وضال ضلالا بعيدا ، فيعزر ويمنع بالحبس ونحوه ، ويجب منع القارئ بالشواذ وتأثيمه بعد تعريفه ، وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه . وأما إذا شرع القارئ في قراءة فينبغي ألا يزال يقرأ بها ما بقي للكلام متعلق بما ابتدأ به . وما خالف هذا فمنه جائز وممتنع ، وعذره مانع من قيامه بحقه ، والعلم عند الله تعالى .

وقال شيخ المالكية - رحمه الله - : لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها ; عالما بالعربية كان أو جاهلا ، وإذا قرأها قارئ ; فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به وأمر بتركها ، وإن كان عالما أدب بشرطه ، وإن أصر على ذلك أدب على إصراره ، وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك ، وأما تبديل ( آتينا ) ( البقرة : 53 ) بـ " أعطينا " و ( سولت ) ( يوسف : 18 ) بـ " زينت " ونحوه ، فليس هذا من الشواذ ، وهو أشد تحريما ، والتأديب عليه أبلغ ، والمنع منه أوجب .

وأما القراءة بالقراءات المختلفة في آي العشر الواحد فالأولى ألا يفعل . نعم إن قرأ بقراءتين في موضع إحداهما مبنية على الأخرى مثل أن يقرأ ( نغفر لكم ) ( الأعراف : 161 ) بالنون و ( خطيئاتكم ) بالرفع ، ومثل ( إن تضل إحداهما ) بالكسر ( فتذكر ) ( البقرة : 282 ) بالنصب ، فهذا أيضا ممتنع ، وحكم المنع كما تقدم .

قال الشيخ شهاب الدين : والمنع من هذا ظاهر ، وأما ما ليس كذلك [ فلا ] منع منه ; [ ص: 483 ] فإن الجمع جائز ، والتخيير فيه بأكثر من ذلك كان حاصلا بما ثبت من إنزال القرآن على سبعة حروف توسعة على القراء ; فلا ينبغي أن يضيق بالمنع من هذا ولا ضرر فيه ، نعم أكره ترداد الآية بقراءات مختلفة كما يفعله أهل زماننا في جميع القراءات لما فيه من الابتداع ، ولم يرد فيه شيء عن المتقدمين ، وقد بلغني كراهته عن بعض متصدري المغاربة المتأخرين .

قلت : وما أفتى به الشيخان نقله النووي في " شرح المهذب " عن أصحاب الشافعي ، فقال : " قال أصحابنا وغيرهم : لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة ; لأنها ليست قرآنا ; لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، والقراءة الشاذة ليست متواترة ، ومن قال غيره فغالط أو جاهل ، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه قراءتها في الصلاة وغيرها ، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ ، ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشواذ ، ولا يصلى خلف من يقرأ بها " .

التالي السابق


الخدمات العلمية