الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم فصل تعالى ما في هذه الآية من الإجمال بقوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها . ( الذرء ) فسروه بالخلق ، وذرأنا : خلقنا ، كما قال ابن عباس وغيره ، وهو تفسير مراد ، ولكل مادة معنى خاص ، وقد تقدم معنى مادة " خلق " وسنعيده ، وقال الراغب : الذرء ( إظهار الله تعالى ما أبدأه ) يقال : ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم ، وذكر هذه الآية وغيرها وقال : وقرئ تذرؤه الرياح ، وفي اللسان بعد تفسير الذرء بالخلق والاستشهاد بالآية : وقال عز وجل : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ( 42 : 11 ) قال أبو إسحاق : المعنى يذرؤكم به أي يكثركم بجعله منكم ومن الأنعام أزواجا . . ثم قال : " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ " وكأن الذرء مختص بخلق الذرية . وفي حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى خالد " وإني لأظنكم آل المغيرة ذرء النار " يعني خلقها الذين خلقوا لها ، ويروى ( ذرو النار ) ، يعني الذين يفرقون فيها ، من ذرت الريح التراب إذا فرقته انتهى المراد منه . وفي الأساس : ذرأنا الأرض وذروناها ، وذرأ الله الخلق وبرأ إلخ .

                          فإذا تأملت مع هذه الأقوال استعمال القرآن لهذا الحرف في النبات والحيوان والإنسان خاصة ، علمت أن الذرء في أصل اللغة بمعنى بث الأشياء وبذرها وتفريقها وتكثيرها ، وأن إسنادها إلى الله تعالى بمعنى خلق ذلك أي إيجاده ، كما أن أصل معنى الخلق التقدير ، ويسند إلى الله تعالى بمعنى إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا ; ولهذا عطف الذرء والبرء على الخلق في حديث الدعاء المتقدم .

                          و " الجن " الأحياء العاقلة المكلفة الخفية غير المدركة بحواس البشر ، ولعل تقديمهم هنا في الذكر على الإنس أنهم أكثر أهل جهنم ; لأنهم أجدر وأعرق في الصفات الآتية التي هي سبب استحقاقها ، وكون خلق أصل نوعهم وأوله من مارج من نار ، لا يقتضي عدم تألمهم [ ص: 351 ] من النار كما قد يتوهم ، فإن بين حقيقة نوع البشر وحقيقة الطين الذي خلق أبوهم منه بونا عظيما يقاس عليه الجن .

                          و " القلوب " جمع قلب ، وهو يطلق في اللغة العربية على المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من جسد الإنسان ، إذا كان موضوع الكلام جسد الإنسان ، ويطلق عند الكلام في نفس الإنسان وإدراكه وعلمه وشعوره وتأثير ذلك في أعماله ، على الصفة النفسية واللطيفة الروحية التي هي محل الحكم في أنواع المدركات ، والشعور الوجداني للمؤلمات والملائمات ، أعني أنه يطلق بمعنى العقل ، وبمعنى الوجدان الروحي ، الذي يعبر عنه في عرف هذا العصر بالضمير ، وهو تعبير صحيح . واشتقاق العقل من عقل البعير لمنعه من السير ، وفي معنى القلب اللب الذي هو جوهر الشيء ويكثر في التنزيل ، ومنه النهية وجمعها نهى ، ومنه قوله تعالى في سورة طه : إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( 20 : 128 ) .

                          ومن استعماله في معنى العقل قوله تعالى في سورة الحج : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( 22 : 46 ) وهي بمعنى الآية التي نفسرها ، وحذف منها " أو أعين يبصرون بها " استغناء عنه بدلالة ما بعده عليه ، والآيات المبصرة بالأعين في السياحة في الأرض أكثر من المسموعة ، ومن استعماله في معنى الوجدان النفسي قوله تعالى في سورة الزمر . وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ( 39 : 45 ) وقوله في سورة آل عمران والأنفال سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ( 8 : 12 ) وقوله في النازعات : قلوب يومئذ واجفة ( 79 : 8 ) فالاشمئزاز والرعب والوجيف شعور وجداني ، لا حكم عقلي ، وقد يستعمل المعنيين معا ، والأقرب أن منه فقه القلوب هنا ، فإن الفقه لا يحصل إلا بنوع من الإدراك ، يصحبه وجدان يبعث على العمل ، كما يعلم مما نذكره في تحقيق معناه ، وقد يتعارض مقتضى العقل والوجدان ، كوجدان اللذة والألم والحب والبغض التي تحمل على أعمال مخالفة لحكم العقل في المنافع والمضار .

                          وسبب استعمال القلب بمعنى الوجدان الحسي والمعنوي وهو الضمير ، ما يشعر به المرء من انقباض أو انشراح عند الخوف والاشمئزاز أو السرور والابتهاج ; ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لوابصة حين جاء يسأله عن البر والإثم وقد علم - صلى الله عليه وسلم - ذلك قبل السؤال استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك رواه الإمام أحمد والدارمي [ ص: 352 ] بإسناد حسن ومسلم مختصرا ، ثم توسعوا في استعماله فاستعملوه بمعنى الإدراك العقلي المؤثر في النفس لا مطلق التصور والتصديق . فهو لا ينافي كون مركزهما الدماغ ، على أن الاستعمالات اللغوية ، لا يجب أن توافق الحقائق العلمية .

                          و " الفقه " قد فسروه بالعلم بالشيء والفهم له - وكذا بالفطنة كما في جل المعاجم أو كلها ، وقالوا : فقه ( كعلم وفهم ) وزنا ومعنى ، وقالوا : فقه ( ككرم وضخم ) فقاهة أي صار الفقه وصفا وسجية له ، وقال الراغب : الفقه هو التوصل بعلم شاهد إلى علم غائب . قال السيوطي بعد نقله : فهو أخص من العلم .

                          وقال ابن الأثير في النهاية : إن اشتقاقه من الشق والفتح . أي هذا معناه الأصلي فهو كالفقء بالهمزة ، وهي تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما ، وذكر الحكيم الترمذي هذا ، واستدل به على أن الفقه بالشيء هو معرفة باطنه ، والوصول إلى أعماقه ، فمن لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيها ، وذكر أصحاب المعاجم أن اسم الفقه غلب على علم فروع الشريعة ، أي من العبادات والمعاملات ، وهو اصطلاح حادث لا يفسر به ما ورد في الكتاب والسنة من هذه المادة ، والتحقيق أنهم لم يكونوا يسمون كل من يعرف هذه الفروع فقيها ، كما ترى من عبارة الغزالي الآتية ، ولغيره ما هو أوضح منها ، فقد اشترطوا فيه معرفتها بدلائلها .

                          وذكر الغزالي في ( بيان ما يدل من ألفاظ العلوم ) أن لفظ الفقه تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل ، إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها . . . ( قال ) ، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ، ومفسدات الأعمال ، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ، ويدلك عليه قوله تعالى : ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ( 9 : 122 ) وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة ، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف ، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه ، كما نشاهد الآن من المتجردين له . وقال تعالى : لهم قلوب لا يفقهون بها وأراد به معاني الإيمان دون الفتوى اهـ . وروي عن أبي حنيفة تفسيره بمعرفة النفس ما لها وما عليها .

                          وأقول : ذكرت هذه المادة في عشرين موضعا من القرآن تسعة عشر منها تدل على أن المراد به نوع خاص من دقة الفهم ، والتعمق في العلم ، الذي يترتب عليه الانتفاع به ، وأظهره نفي الفقه عن الكفار والمنافقين ; لأنهم لم يدركوا كنه المراد مما نفي فقهه عنهم ، ففاتتهم المنفعة من الفهم الدقيق ، والعلم المتمكن من النفس ، ومنه قول قوم شعيب لنبيهم : [ ص: 353 ] ما نفقه كثيرا مما تقول ( 11 : 91 ) وإن تراءى لغير الفقيه أنه ليس منه ، فإنهم كانوا يفهمون كل ما يقول فهما سطحيا ساذجا; لأنه يكلمهم بلغتهم ، ولكن لم يكونوا يبلغون ما في أعماق بعض الحكم والمواعظ من الغايات البعيدة لعدم تصديقهم إياه ، وعدم احترامهم له ، ولأنه مخالف لتقاليدهم وأهوائهم الصادة لهم عن التفكير فيه والاعتبار به ، وأما الموضع العشرون فهو قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ( 20 : 27 ، 28 ) وهو لا ينافي ما ذكر ; لأن فصاحة لسان الداعية إلى الدين والواعظ المنذر تعين على تدبر ما يقول وفقهه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية