الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 368 ] وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي: ادعوه بها أيها المؤمنون ، واتركوا وأهملوا بلا مبالاة جميع الذين يلحدون في أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن منهج الحق الوسط ، إلى بنيات الطريق ومتفرق السبل ، من تحريف أو تأويل ، أو تشبيه أو تعطيل ، أو شرك أو تكذيب ، أو زيادة أو نقصان ، أو ما ينافي وصفها بالحسنى وهو منتهى الكمال ، ذروا هؤلاء الملحدين ، ولا تبالوا بهم ، وكأن قائلا يقول : ولماذا نذرهم في خوضهم يعمهون ؟ فأجاب بقوله تعالى : سيجزون ما كانوا يعملون أي: سيلقون جزاء عملهم عن قريب ، بعضهم في الدنيا قبل الآخرة ، وإنما يعمهم جميعهم عقاب الآخرة ، إلا من تاب منهم قبل الموت .

                          وإننا نفصل هذا التفسير الإجمالي بعض التفصيل لفظا ومعنى فنقول : .

                          " ذروا " أمر لم يرد في اللغة استعمال ماضيه ولا مصدره ، وهو بمعنى الترك والإهمال ، فهو بوزن ودع الشيء يدعه ودعا ، ومعناه ، إلا أن هذا قد استعمل ماضيه ومصدره قليلا ، وذاك لم يستعمل منه إلا المضارع " يذر " والأمر " ذر " وتعدد ذكرها في التنزيل ، وزعم الراغب في مفرداته أن معناه : قذف الشيء لقلة الاعتداد به ، وأورد من الشواهد عليه من القرآن ما هو ظاهر فيه ، وأشار إلى شاهد واحد يخالفه في الظاهر ، ووعد ببيان دخوله في موضع آخر ، ولعله يعني تفسيره للقرآن ، وهو قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ( 2 : 234 ) ولم يقل : ويتركون ويخلفون ، ولعله أجاب عنه بأن المراد : ويتركون أزواجاهن عرضة للإهمال ، وعدم الإنفاق عليهن ، فليوصوا لهن ، وإلا كانوا هم المهملين لهن ، والقاذفين بهن في بيداء الإهمال والحاجة . ويرد عليه أيضا قوله تعالى حكاية عن المخلفين في سورة الفتح : ذرونا نتبعكم ( 48 : 15 ) وكل ما عداه من استعمال القرآن لهذه الكلمة يظهر فيه معنى الترك لعدم المبالاة والاهتمام . لا القذف كما عبر به ، ومنه قوله تعالى في ناقة صالح حكاية عنه : فذروها تأكل في أرض الله ( 7 : 73 ) وأظهر منه قوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ( 3 : 179 ) أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ( 7 : 127 ) رب لا تذر على الأرض ( 71 : 26 ) ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ( 76 : 27 ) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ( 26 : 166 ) وتذرون الآخرة ( 75 : 21 ) ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( 6 : 91 ) فذرهم وما يفترون ( 6 : 112 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( 43 : 83 ) إلخ .

                          وأما الإلحاد فمعناه العام الميل والازورار عن الوسط حسا أو معنى ، والأول الأصل فيه كأمثاله ، ومنه لحد القبر للميت ، وهو ما يحفر في جانب القبر من جهة القبلة مائلا عن وسطه .

                          [ ص: 369 ] ويسوى ببناء ونحوه ، ويوضع فيه الميت ، ويقابله الضريح أو الشق ، وهو وضعه في وسط القبر ( واللحد أفضل في الشرع ) يقال : لحد القبر وألحده ، ولحد للميت وألحد ، أي جعل له لحدا ، ومن كلامهم : ألحد السهم الهدف ، أي مال في أحد جانبيه ، ولم يصب وسطه ، ولما كان " خيار الأمور أوساطها " كان الانحراف عن الوسط مذموما ، ومنه أخذ التعبير عن الكفر والتعطيل والشك في الله تعالى بالإلحاد وسمي ذووه الملاحدة والملحدون .

                          قال الراغب : اللحد حفرة مائلة عن الوسط ، وقد لحد القبر حفره وألحده ، وقد لحدت الميت وألحدته : جعلته في اللحد ، ويسمى اللحد ملحدا ، وهو اسم موضع من ألحدته . ولحد بلسانه إلى كذا مال . قال تعالى : لسان الذي يلحدون إليه ( 16 : 103 ) من لحد ، وقرئ ( يلحدون ) من ألحد ، وألحد فلان : مال عن الحق ، والإلحاد ضربان : إلحاد إلى الشرك بالله ، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب ، فالأول ينافي الإيمان ويبطله ، والثاني يوهن عراه ولا يبطله ، ومن هذا النحو قوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ( 22 : 25 ) وقوله : الذين يلحدون في أسمائه ( 7 : 180 ) والإلحاد في أسمائه على وجهين : أحدهما أن يوصف بما لا يصح وصفه به ، والثاني أن يتأول أوصافه على ما لا يليق به اهـ .

                          أقول : قرأ حمزة ( يلحدون ) بفتح الياء هنا ، وفي قوله تعالى في فصلت : إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ( 41 : 40 ) من لحد ، والباقون بضمها من ألحد ، ومعناهما واحد كما علمت ، وأخطأ من زعم أن الأول لا يكاد يسمع .

                          وفي التفسير المأثور عن ابن عباس - رضي الله عنه - الإلحاد التكذيب ، وقال في تفسيره هنا : اشتقوا العزى من العزيز ، واللات من الله ، وعن الأعمش أنه قرأ " يلحدون " بفتح الياء من اللحد وفسره بقوله : يدخلون فيها ما ليس منها ، وعن قتادة في تفسيره روايتان إحداهما : يشركون والثانية : يكذبون في أسمائه ، وملخص هذه الروايات : أن من الإلحاد في أسمائه تعالى التكذيب بها ، وإنكار معانيها ، وتحريفها بالتأويل ونحوه ، وتسميته تعالى بما لم يسم به نفسه ، وبما لا يليق بكماله وجلاله ، وإشراك غيره به فيها ، وهذان قسمان : إشراك في التسمية ، وهو يقصر على الأسماء الدالة على معنى الألوهية والربوبية وخصائصهما ، وإشراك في المعاني وهي قسمان : معان خاصة بالألوهية والربوبية ، ومعان غير خاصة في نفسها ، وإنما الخاص به [ ص: 370 ] تعالى كمالها ، وهو معنى كونها الحسنى كما يدل عليه تقديم الخبر في قوله : ولله الأسماء الحسنى أي: له وحده دون غيره كما تقدم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية