الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                668 [ ص: 404 ] ص: ومما يدل على ما قلنا من ذلك ما:

                                                حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود، حدثه أنه سمع عروة يخبر، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: " أقبلنا مع النبي -عليه السلام- في غزوة [له] حتى إذا كنا بالمعرس، قريبا من المدينة، ، نعست من الليل، وكانت علي قلادة تدعى السمط، تبلغ السرة، فجعلت أنعس، فخرجت من عنقي، فلما نزلت مع النبي -عليه السلام- لصلاة الصبح، قلت: يا رسول الله، خرت قلادتي. فقال للناس: إن أمكم قد ضلت قلادتها فابتغوها، فابتغاها الناس، ولم يكن معهم ماء، فاشتغلوا بابتغائها إلى أن حضرتهم الصلاة، ووجدوا القلادة، ولم يقدروا على ماء، فمنهم من تيمم إلى الكف، ومنهم من تيمم إلى المنكب، وبعضهم تيمم على (جلده) فبلغ ذلك رسول الله -عليه السلام- فأنزلت آية التيمم. .

                                                ففي هذا الحديث: أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا هذا التيمم المختلف، الذي بعضه إلى المناكب، فعلمنا بتيممهم أنهم لم يفعلوا ذلك إلا وقد تقدم عندهم أصل التيمم، وعلمنا بقولها: "فأنزل الله - عز وجل - آية التيمم" الذي نزل بعد فعلهم هو صفة التيمم، فهذا وجه حديث عمار عندنا.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي من الذي يدل على ما قلنا من ذلك، أي: من قولنا، فقد يحتمل أن تكون الآية لما أنزلت لم تنزل بتمامها.. إلى آخره.

                                                وجه دلالة هذا الحديث على ما قاله، أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا تيمما مختلفا في نفسه، من غير أن يحيطوا علما بصفته وكيفيته، ثم لما نزلت آية التيمم علموا صفة التيمم ما هي، وحديث عمار الذي فيه ذكر الآباط والمناكب محمول على هذا المعنى؛ لأنه أخبر عن التيمم الذي وقع منهم قبل نزول آية التيمم، ولهذا روى عمار بعد هذا أن التيمم للوجه والكفين، على ما يجيء إن شاء الله.

                                                [ ص: 405 ] وجواب آخر عن حديث عمار: أنه لما اختلفت أحاديثه في هذا الباب، واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم مع ذلك، على أن عمارا لم يعز ذلك إلى النبي -عليه السلام- وإنما حكى فعل نفسه، فلم يثبت التيمم إلى المناكب وإن كان له وجه في الاحتمال، وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبي هريرة في غسله ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه، على وجه المبالغة فيه، لقول النبي -عليه السلام-: "إنكم الغر المحجلون من آثار الوضوء، فمن أراد منكم أن تطول غرته فليفعل. فقال أبو هريرة: إني أحب أن أطيل غرتي".

                                                ثم بقي من أخبار عمار ما عزاه إلى النبي -عليه السلام- الوجه والكفان، ونصف الذراع إلى المرفقين، فكانت رواية من روى إلى المرفقين أولى؛ لوجوه:

                                                إحداها: أنه زائد على روايات الآخرين، وخبر الزائد أولى.

                                                والثاني: أن آية الوضوء تقتضي اليدين إلى المنكبين، لدخولهما تحت الاسم، ولا يخرج منه شيء إلا بدليل، وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين، فبقي حكمه إلى المرفقين.

                                                والثالث: أن في حديث أبي عامر وجابر والأسلع: التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهم في رواياتهم.

                                                ثم رجال حديث عائشة -رضي الله عنها- ثقات، غير أن في عبد الله بن لهيعة مقالا.

                                                وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب أبو عبد الله المصري، بحشل، ابن أخي عبد الله بن وهب، روى عنه مسلم وابن جرير الطبري وابن خزيمة .

                                                وعمه عبد الله بن وهب .

                                                وأبو الأسود عبد الرحمن المدني .

                                                وحديث انقطاع العقد حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود، وليس في حديثهم ذكر صفة التيمم.

                                                [ ص: 406 ] فقال البخاري: نا عبد الله بن يوسف، أنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام- قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - انقطع عقد لي، فأقام رسول الله -عليه السلام- على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟! أقامت بالناس والنبي -عليه السلام- وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر، ورسول الله -عليه السلام- واضع رأسه على فخذي، فدنا ثم قال: أحبست رسول الله -عليه السلام-، والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله -عليه السلام- على فخذي. [فقام رسول الله -عليه السلام-] حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله - عز وجل - آية التيمم، فتيمموا فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم، يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير، فأصبنا العقد تحته".

                                                وفي لفظ: استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله -عليه السلام- رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى رسول الله -عليه السلام- فأنزل الله تعالى آية التيمم، فقال أسيد لعائشة: جزاك الله خيرا، والله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعل الله تعالى ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا".

                                                وأخرج مسلم الروايتين:

                                                الأولى: عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره.

                                                والثانية: عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: نا أبو أسامة، وعن أبي كريب، قال: نا

                                                [ ص: 407 ] أبو أسامة وابن بشر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة: "أنها استعارت قلادة من أسماء فهلكت... إلى آخره نحوه".

                                                وأخرجه النسائي: عن قتيبة ، عن مالك.. إلى آخره.

                                                وأخرجه أبو داود: عن النفيلي ، عن أبي معاوية .

                                                وعن عثمان بن أبي شيبة، قال: أنا عبدة - المعنى واحد - عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة قالت: "بعث رسول الله -عليه السلام- أسيد بن حضير وأناسا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي -عليه السلام- فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم" زاد ابن نفيل: "فقال لها أسيد: رحمك الله، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجا".

                                                قوله: "في غزوة له" هي غزوة المريسيع ، وقد مر الكلام فيه مستوفى عن قريب.

                                                قوله: "حتى إذا كنا بالمعرس" بضم الميم وفتح العين والراء المشددة، وهو موضع التعريس، وبه سمي معرس ذي الحليفة، عرس به النبي -عليه السلام- وصلى فيه الصبح، ثم رحل.

                                                والتعريس هو النزول في آخر الليل، نزل للنوم والاستراحة، يقال فيه: عرس يعرس تعريسا، ويقال فيه: أعرس. فعلى هذا يجوز أن يقال في قوله: "حتى إذا كنا بالمعرس" بضم الميم وسكون العين وفتح الراء المخففة.

                                                قوله: "قريبا من المدينة " بيان لقوله: "بالمعرس"، وانتصابه على أنه حال منه.

                                                قوله: "نعست" من: نعس، ينعس - من باب نصر ينصر - نعاسا

                                                [ ص: 408 ] ونعسة، فهو ناعس، ولا يقال: نعسان، و: [النعاس]، الوسن، وأول النوم.

                                                قوله: "يدعى السمط" بكسر السين وسكون الميم، وهو الخيط ما دام فيه خرز، وإلا فهو سلك، وأصله من التسميط وهو التعليق: يقال: سمطت الشيء: علقته على السموط، تسميطا، والسموط: السير الذي يعلق من السرج، وجمعه سماط.

                                                قوله: "تبلغ السرة" في محل الرفع على أنه صفة للسمط.

                                                قوله: "خرت" أي: سقطت، من الخرور، وهو السقوط.

                                                قوله: "قد ضلت قلادتها" برفع قلادة، يعني ضاعت، يقال: ضل الشيء يضل ضلالا، إذا ضاع وهلك، والاسم الضل، بالضم.

                                                ويجوز نصب القلادة، من قولهم: ضللت الشيء، وضللته، إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو، قال الجوهري: وقد ضللت أضل، قال تعالى: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي فهذه لغة نجد ، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضللت بالكسر أضل، وقال ابن السكيت: أضللت بعيري: إذا ذهب منك، وضللت المسجد والدار، إذا لم تعرف موضعهما.

                                                قوله: "فابتغوها" أي: اطلبوها، والابتغاء: الطلب.

                                                قوله: "إلى أن حضرتهم الصلاة" أي صلاة الصبح، والألف واللام فيه للعهد، أي: زمن؛ لأن صلاة الصبح قد ذكرت قبلها.

                                                [ ص: 409 ] وها هنا أسئلة:

                                                الأول: اختلاف لفظ العقد والقلادة، ففي رواية البخاري: "انقطع عقد لي" وكذا في رواية عمار: "فهلك عقد لعائشة"، وهي الرواية التي أخرجها الطحاوي وأبو داود، وكذا في بعض ألفاظ الصحيح: "أنه ضاع عقدها في غزوة المريسيع " وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم: "استعارت من أسماء قلادة"، وفي رواية الطحاوي ها هنا: "وكانت علي قلادة"، وهذه كما ترى متضادة.

                                                وأجيب بأن القصة واحدة، وإنما الرواة تخالف بين العبارات، والقلادة كانت لأسماء، واستعارتها منها عائشة فأضافتها إلى نفسها بقولها: "انقطع عقد لي" قاله ابن الجوزي .

                                                قلت: والأحسن أن يقال: إن سقوط العقد كان مرتين على ما صرح به الطحاوي في روايته التي ذكرناها في هذا الباب، فكانت قضيتان، فعبرت في الأولى بالعقد، وفي الثانية بالقلادة، وكان أمر العقد في قضية الإفك، وأمر القلادة في قضية التيمم، تشهد عليه بذلك رواية الطبراني .

                                                فإن قلت: إذا كان أمر القلادة في قضية التيمم، فكيف عبرت عائشة -رضي الله عنها- بالعقد في قضية التيمم في رواية البخاري وغيره؟

                                                قلت: أطلقت على القلادة عقدا، فتارة عبرت بالعقد، وتارة بالقلادة.

                                                الثاني: أن بين قولها "فبعث رسول الله -عليه السلام- رجلا" فوجدها، وبين قوله: "فبعثنا البعير فأصبنا العقد تحته"، تناقض حتى قال الداودي: هذا مما لا شك في تضاده، ولا أرى الوهم في ذلك إلا في رواية عبد الله بن نمير عن هشام: "فبعث رجلا فوجدها" قال: وحمل إسماعيل بن إسحاق على رواية ابن نمير وجعله تناقضا لحديث مالك .

                                                [ ص: 410 ] وأجيب بأن الدعوى أنهما قضيتان، فلا تناقض حينئذ على ما لا يخفى.

                                                أو يكون المراد من قولها: "بعث رجلا"، يعني أميرا على جماعة، كعادته، فعبر بعض الرواة بأناس، يعني: أسيدا وأصحابه، وبعضهم برجل، يعني: المشار إليه.

                                                وقال المهلب بن أبي صفرة: ليس بينهما تناقض؛ لأنه يحتمل أن يكون المبعوث أسيدا فوجدها بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- وجدها عند إثارة البعير، بعد انصراف المبعوثين إليها، فلا يكون بينهما تعارض.

                                                الثالث: أن بين رواية الطحاوي هذه وبين رواية مسلم وغيره تناقضا؛ لأن المفهوم من رواية الطحاوي أنهم حين لم يقدروا على الماء تيمموا، منهم من تيمم إلى الكف، ومنهم من تيمم إلى المنكب، ومنهم من تيمم على جلده، ثم بلغ ذلك رسول الله -عليه السلام- فأنزلت آية التيمم.

                                                فهذا يدل على أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا هذا التيمم المختلف، فعلم من هذا أنهم لم يفعلوا ذلك إلا وقد تقدم عندهم أصل التيمم، وعلم من قول عائشة: "فأنزل الله آية التيمم"، (أنه هو الذي) أنزل بعد فعلهم هو صفة التيمم، على ما ذكره الطحاوي .

                                                والمفهوم من رواية مسلم وغيره أنهم صلوا بغير وضوء، وأنهم لما أتوا النبي -عليه السلام- شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم، فهذه تدل على أنهم لو كان لهم علم متقدم من أصل التيمم ما كانوا صلوا الآن.

                                                وأجيب: أن قوله: "صلوا بغير وضوء" لا يستلزم نفي صلاتهم بذاك التيمم المختلف، الذي تقدم علمهم به؛ لأن الوضوء غير التيمم.

                                                فإن قيل: يرد هذا ما رواه الطبراني في "الكبير": نا يوسف القاضي، نا محمد بن [ ص: 411 ] أبي بكر المقدمي، نا حميد بن الأسود ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة: "أنها استعارت قلادة من أسماء، فسقطت من عنقها، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- فأرسل رجالا يبتغونها، فابتغوها فوجدوها، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير طهور، ثم رجعوا إلى رسول الله -عليه السلام- فذكروا ذلك له، فأنزل الله الرخصة. فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمؤمنين خيرا".

                                                فإن قوله: "بغير طهور" يتناول الماء والتراب.

                                                قلت: قوله: "بغير طهور" لا ينافي أصل علمهم بأصل التيمم، ولما كان هذا التيمم المختلف عندهم كلا تيمم؛ لعدم نزول النص حينئذ، صاروا كأنهم صلوا بغير طهور، ولما أنزلت آية التيمم، وعرفوا صفته، عرفوا بعد ذلك أنه طهور كالماء عند عدمه، ألا ترى أن تيممهم ذلك لو كان معتبرا معتدا به قبل نزول الآية، لما سأل عمار -رضي الله عنه- الذي هو أحد من تيمم ذلك التيمم المختلف - رسول الله -عليه السلام- عن صفة التيمم، فسؤاله هذا إنما كان بعد تيممه بذلك التيمم.

                                                فإن قلت: هذا التيمم المختلف، هل عملوه باجتهاد ورأي من عندهم، أم بالسنة؟

                                                قلت: الظاهر أنه كان باجتهاد منهم، فيرجع هذا إلى المسألة المختلف فيها، وهي أن الاجتهاد في عصره -عليه السلام- هل يجوز أم لا؟

                                                فمنهم من جوزه مطلقا، وهو المختار عند الأكثرين، منهم الإمام.

                                                ومنهم من منعه مطلقا.

                                                وقالت طائفة: يجوز للغائبين عن الرسول -عليه السلام- وعن نوابه من القضاة والولاة، دون الحاضرين.

                                                وجوزه الآخرون للغائبين مطلقا، دون الحاضرين.

                                                ومنهم من قال: يجوز إذا لم يوجد من ذلك منع.

                                                [ ص: 412 ] الرابع: أن قوله: "فأنزلت آية التيمم" إن كان المراد منه آية الوضوء التي في سورة المائدة، يلزم من ذلك أن يكون الوضوء فرض حين شرع التيمم، وليس كذلك، بل الوضوء كان فرضا قبل ذلك، ومنذ افترضت الصلاة بمكة لم تصل صلاة إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم، وهذا ما لا يجهله أحد .

                                                وأجيب بأن القرطبي وغيره ذكروا أنها أرادت آية النساء؛ لأن آيتها لا ذكر فيها للوضوء.

                                                وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية، وهو فرض الوضوء، ثم نزل عند هذه الواقعة آية التيمم، وهو تمام الآية، وهو كنتم مرضى أو أو يحتمل أن يكون الوضوء كان بالسنة لا بالقرآن، ثم أنزلا معا، فعبرت عائشة بالتيمم؛ إذ كان هو المقصود.

                                                الخامس: أن الجاحظ عمرو بن بحر، ذكر في كتاب "البرهان" أن الأسلع الأعرجي الذي كان يرحل للنبي -عليه السلام- قال للنبي -عليه السلام- يوما: "إني أجنبت وليس عندي ماء، فأنزل الله آية التيمم" على ما يجيء.

                                                وأجيب: بأنه ضعيف، ولئن صح فجوابه أنه يحتمل أن تكون قضية الأعرجي واقعة في قضية سقوط العقد؛ لأنه كان يخدم النبي -عليه السلام- وكان صاحب راحلته، فاتفق له هذا الأمر عند وقوع قضية سقوط العقد.

                                                فإن قيل: قد روى ابن أبي شيبة؛ في "مصنفه": عن عباد بن العوام ، عن يزيد ، عن سليمان بن موسى ، عن أبي هريرة: "لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع، فأتيت [ ص: 413 ] النبي -عليه السلام- [فلم أجده، فانطلقت أطلبه، فاستقبلته، فلما رآني عرف الذي جئت له] فضرب بيديه ضربة إلى الأرض، فمسح وجهه وكفيه" انتهى. وهذا مشكل لأن إسلام أبي هريرة بعد نزول آية التيمم بزمان؛ لأنه أسلم عام خيبر ، وكانت في سبع من الهجرة، ونزول آية التيمم كان في سنة خمس أو ست، على ما بينا من الاختلاف فيه.

                                                قلت: استشكلوا هذا، ولم يجب أحد عنه، وقد وقع في خاطري من الأنوار الربانية: أنه لما أسلم، وبلغه آية التيمم وتعلمها، لم يدر كيف التيمم، فسأل النبي -عليه السلام- عنه، فعلمه إياه، ثم إنه لما أخبر به قال: "لما نزلت آية التيمم"، بناء على نزولها فيما مضى، لا في تلك الحالة، فيكون التقدير: لما نزلت آية التيمم وتعلمتها بعد إسلامي، لم أدر كيف أصنع، فسألته -عليه السلام-، فضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه وكفيه.

                                                ثم إنه يستفاد من الحديث المذكور أحكام:

                                                الأول: خروج النساء مع الرجال في الأسفار والغزوات، إذا كان العسكر كثيرا يؤمن عليهن، فإذا كانت له نساء فله أن يخرج أيتها شاء، ويستحب أن يقرع بينهن، فمن خرجت قرعتها أخرجها معه، وعند الأئمة الثلاثة القرعة واجبة.

                                                الثاني: جواز التيمم بالصعيد الطاهر لكل مسلم، مريض أو مسافر، محدث أو جنب، ولم يختلف فيه علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب.

                                                وقد كان عمر بن الخطاب وابن مسعود -رضي الله عنهم- يقولان: الجنب لا يطهره إلا الماء؛ لقوله - عز وجل - كنتم جنبا فاطهروا وإن وقوله: جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن وذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله: كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا

                                                [ ص: 414 ] ولم يتعلق بقولهما أحد من الفقهاء؛ للأحاديث الثابتة في تيمم الجنب.

                                                الثالث: استدل بقوله: "فصلوا بغير وضوء" في رواية مسلم وغيره طائفة أن من لم يجد ماء ولا ترابا لا يترك الصلاة إذا حضر وقتها على كل حال، وعن الشافعي أربعة أقوال:

                                                أصحها: يجب عليه أن يصلي، ويجب عليه أن يعيد إذا زالت الضرورة.

                                                الثاني: لا تجب عليه الصلاة ولكن تستحب، ويجب القضاء سواء صلى أو لم يصل.

                                                الثالث: تجب الصلاة ولا تجب عليه الإعادة، وبه قال المزني .

                                                والرابع: تحرم عليه الصلاة؛ لكونه محدثا، وتجب عليه الإعادة، وهو قول أصحابنا الحنفية؛ لقوله -عليه السلام-: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور".

                                                والجواب عن هذا: أنهم صلوا صلاتهم تلك اجتهادا، والمجتهد يخطئ ويصيب.

                                                وقال أبو عمر: قال ابن خواز منداد: الصحيح من مذهب مالك أن كل من لم يقدر على الماء ولا على الصعيد حتى خرج الوقت، أنه لا يصلي ولا شيء عليه. ورواه المدنيون عن مالك، وهو الصحيح.

                                                قال أبو عمر: كيف أقدم على أن جعل هذا صحيحا، وعلى خلافه جمهور السلف، وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين؟!

                                                فكأنه قاسه على ما روي عن مالك فيمن كتفه الوالي وحبسه، فمنعه من الصلاة حتى خرج وقتها، أنه لا إعادة عليه.

                                                [ ص: 415 ] ثم قال: والأسير المغلول، والمريض الذي لا يجد من يناوله الماء، ولا يستطيع التيمم، لا يصلي وإن خرج الوقت حتى يجد إلى الوضوء أو التيمم سبيلا.

                                                وعن الشافعي روايتان: إحداهما هكذا، والأخرى يصلي، (وأعاد) إذا قدر، وهو المشهور عنه، وقال أبو حنيفة في المحبوس في العصر: إذا لم يجد ماء، ولا ترابا نظيفا لم يصل، وإذا وجده صلى.

                                                وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي والثوري والطبري: يصلي ويعيد.

                                                وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي: إن وجد المحبوس في العصر ترابا نظيفا صلى وأعاد.

                                                وقال زفر: لا يتيمم ولا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا؛ بناء على [أصله في] أنه لا تيمم عنده في الحضر.

                                                وقال ابن القاسم: لو تيمم على التراب النظيف، أو على وجه الأرض، لم يكن عليه إعادة إذا صلى ثم وجد الماء.

                                                وقال أبو عمر: أما الذين قالوا: إن من لم يقدر على الماء ولا على الصعيد صلى كما هو وأعاد إذا قدر على الطهارة [فإنهم احتاطوا للصلاة].

                                                الرابع: يستفاد منه التيمم في السفر وهو أمر مجمع عليه.

                                                واختلفوا في الحضر، فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر سواء، إذا عدم الماء أو تعذر استعماله لمرض أو خوف شديد، أو خوف خروج الوقت.

                                                قال أبو عمر: وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد .

                                                [ ص: 416 ] وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم، إلا أن يخاف التلف. وبه قال الطبري .

                                                وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف خروج الوقت.

                                                وقال الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف فوت الوقت، الصحيح والسقيم يتيمم ويصلي ويعيد.

                                                وقال عطاء بن أبي رباح: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، ولا غير المريض.

                                                قلت: قوله وهذا كله قول أبي حنيفة؛ غير صحيح، فإن عنده لا يجوز التيمم لأجل خوف فوت الوقت، كما هو مقرر في كتب أصحابه.

                                                الخامس: فيه دليل على أنه ليس للمرء أن ينصرف عن سفر لا يجد فيه ماء، ولا يترك سلوك طريق لذلك، وخشية سلوك ما أباح الله له.

                                                السادس: فيه دليل على حرمة الأموال الحلال.

                                                السابع: فيه دليل على جواز حفظ الأموال وإن أدى إلى عدم الماء في الوقت.




                                                الخدمات العلمية