الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      عمر بن مدرك : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا أشعث بن شعبة المصيصي ، قال : قدم الرشيد الرقة ، فانجفل الناس خلف ابن المبارك ، وتقطعت النعال ، وارتفعت الغبرة ، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب ، فقالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان ، قدم . قالت : هذا والله الملك ، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان .

                                                                                      قال عثمان بن خرزاذ : حدثنا محمد بن حيان ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد الجهضمي ، قال : قال الأوزاعي : رأيت ابن المبارك ؟ قلت : لا . قال : لو رأيته لقرت عينك . وقال عبد العزيز بن أبي رزمة : قال لي شعبة : ما قدم علينا من ناحيتكم مثل ابن المبارك .

                                                                                      الدغولي : حدثنا عبد المجيد بن إبراهيم ، حدثنا وهب بن زمعة ، حدثنا معاذ بن خالد ، قال : تعرفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك ، فقال إسماعيل : ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك ، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك . ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة ، فكان يطعمهم [ ص: 385 ] الخبيص ، وهو الدهر صائم .

                                                                                      قال الحاكم : أخبرني محمد بن أحمد بن عمر ، حدثنا محمد بن المنذر ، حدثني عمر بن سعيد الطائي ، حدثنا عمر بن حفص الصوفي بمنبج ، قال : خرج ابن المبارك من بغداد ، يريد المصيصة ، فصحبه الصوفية ، فقال لهم : أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم . يا غلام هات الطست ، فألقى عليه منديلا ، ثم قال : يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه ، فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم ، والرجل يلقي عشرين ، فأنفق عليهم إلى المصيصة ، ثم قال : هذه بلاد نفير . فنقسم ما بقي ، فجعل يعطي الرجل عشرين دينارا ، فيقول : يا أبا عبد الرحمن ، إنما أعطيت عشرين درهما ، فيقول : وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته .

                                                                                      قال الخطيب : أخبرنا عمر بن إبراهيم ، وأبو محمد الخلال ، قالوا : حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الكاتب ، حدثنا أحمد بن الحسن المقرئ ، سمعت عبد الله بن أحمد الدورقي ، سمعت محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، سمعت أبي قال : كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج ، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو ، فيقولون : نصحبك ، فيقول : هاتوا نفقاتكم ، فيأخذ نفقاتهم ، فيجعلها في صندوق ، ويقفل عليها ، ثم يكتري لهم ، ويخرجهم من مرو إلى بغداد ، فلا يزال ينفق عليهم ، ويطعمهم أطيب الطعام ، وأطيب الحلوى ، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة ، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم - فيقول لكل واحد : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها ؟ فيقول : كذا وكذا ، ثم [ ص: 386 ] يخرجهم إلى مكة ، فإذا قضوا حجهم ، قال لكل واحد منهم : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة ؟ فيقول : كذا وكذا ، فيشتري لهم ، ثم يخرجهم من مكة ، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو ، فيجصص بيوتهم وأبوابهم ، فإذا كان بعد ثلاثة أيام ، عمل لهم وليمة وكساهم ، فإذا أكلوا وسروا ، دعا بالصندوق ، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته ، عليها اسمه .

                                                                                      قال أبي : أخبرني خادمه أنه عمل آخر سفرة سافرها دعوة ، فقدم إلى الناس خمسة وعشرين خوانا فالوذج . فبلغنا أنه قال للفضيل : لولاك وأصحابك ما اتجرت . وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم .

                                                                                      علي بن خشرم : حدثني سلمة بن سليمان قال : جاء رجل إلى ابن المبارك ، فسأله أن يقضي دينا عليه ، فكتب له إلى وكيل له ، فلما ورد عليه الكتاب ، قال له الوكيل : كم الدين الذي سألته قضاءه ؟ قال : سبع مائة درهم ، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم ، فراجعه الوكيل ، وقال : إن الغلات قد فنيت ، فكتب إليه عبد الله : إن كانت الغلات قد فنيت ، فإن العمر أيضا قد فني ، فأجز له ما سبق به قلمي .

                                                                                      قال محمد بن المنذر : حدثني يعقوب بن إسحاق ، حدثني محمد بن عيسى ، قال : كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس ، وكان ينزل الرقة في خان ، فكان شاب يختلف إليه ، ويقوم بحوائجه ، ويسمع منه الحديث ، فقدم عبد الله مرة ، فلم يره ، فخرج في النفير مستعجلا ، فلما [ ص: 387 ] رجع ، سأل عن الشاب ، فقال : محبوس على عشرة آلاف درهم ، فاستدل على الغريم ، ووزن له عشرة آلاف ، وحلفه ألا يخبر أحدا ما عاش ، فأخرج الرجل ، وسرى ابن المبارك ، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة ، فقال لي : يا فتى ، أين كنت ؟ لم أرك . قال : يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين . قال : وكيف خلصت ؟ قال : جاء رجل ، فقضى ديني ، ولم أدر . قال : فاحمد الله . ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية