الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) ، واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط - وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمنا قليلا - خمسة أنواع من الجزاء ، أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : في بيان وقوعهم في أشد العذاب ، أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            فالأول : وهو قوله : ( أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 93 ] وأما الثلاثة الباقية : وهي قوله : ( ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ) ، فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الخامس : وهو قوله : ( ولهم عذاب أليم ) فهو إشارة إلى العقاب ، ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة :

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول : وهو قوله : ( لا خلاق لهم في الآخرة ) ، فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة ، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضا بعدم العفو ، فإنه تعالى قال : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : وهو قوله : ( ولا يكلمهم الله ) ففيه سؤال ، وهو أنه تعالى قال : ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) [ الحجر : 92 ، 93 ] ، وقال : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] فكيف الجمع بين هاتين الآيتين وبين تلك الآية ؟ قال القفال في الجواب : المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم ؛ لأن من منع غيره كلامه في الدنيا ، فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر ، قال له لا أكلمك ، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه ، وهذا هو الجواب الصحيح ، ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه ، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ، ومنهم من قال : معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم ، والمعتد هو الجواب الأول .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثالث : وهو قوله تعالى : ( ولا ينظر إليهم ) فالمراد أنه لا ينظر إليهم بالإحسان ، يقال : فلان لا ينظر إلى فلان ، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه ، والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه ، وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى ، فلهذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثم نظر ، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية ؛ لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته ؛ لأن هذا من صفات الأجسام ، وتعالى إلهنا عن أن يكون جسما ، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف ( إلى ) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائيا لهم وذلك باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الرابع : وهو قوله : ( ولا يزكيهم ) ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة ، بل يعاقبهم عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكي للشاهد مدح منه له .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة ، كما قال : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد : 23 ، 24 ] ، وقال : ( وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) [ الأنبياء : 103 ] ، وقد تكون بغير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله : ( التائبون العابدون ) [ التوبة : 112 ] ، وأما في الآخرة فكقوله : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 58 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 94 ] وأما الخامس : وهو قوله : ( ولهم عذاب أليم ) ، فاعلم أنه تعالى لما بين حرمانهم من الثواب بين كونهم في العقاب الشديد المؤلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية