الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          خلاصة القول في أشراط الساعة :

                          وجملة القول في أحاديث الفتن ، وأشراط الساعة ، وأماراتها وسبب الاختلاف والتعارض فيما يختصر في المسائل الآتية : ( 1 ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم الغيب كما يأتي في الآية التالية ، بل هو معلوم من الدين بالضرورة ، وإنما أعلمه الله تعالى ببعض الغيوب بما أنزله عليه في كتابه وهو قسمان : صريح كأخبار الملائكة والساعة والجنة والنار ، ومستنبط من بيان سنن الله تعالى المنصوصة فيه كقوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( 8 : 25 ) وقوله : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 17 : 16 ) فكان يفهم منها - صلى الله عليه وسلم - ما لا يفهم غيره من الصحابة فمن دونهم علما وفهما ، كما روي عن الزبير - رضي الله عنه - من عدة طرق في آية : واتقوا فتنة أنهم قرؤوها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكونوا يعلمون أنها تقع منهم حيث وقعت في فتنة قتل عثمان وفي يوم الجمل ، والروايات عن الزبير أوردها الحافظ في أول شرح كتاب الفتن من البخاري .

                          ( 2 ) إن الله تعالى أعلمه ببعض ما يقع في المستقبل بغير القرآن من الوحي ، كسؤاله لربه ألا يجعل بأس أمته بينها ، فلم يعطه ذلك وأعلمه أن سنته في خلقه لا تتبدل ، أي وأن هذا منها ، راجع تفسيرنا لقوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ( 6 : 65 ) إلخ . ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن ذلك من سنته تعالى قبل إعلامه له .

                          ( 3 ) أنه كان يتمثل له - صلى الله عليه وسلم - بعض أمور المستقبل كأنه يراه ، كما تمثلت له الجنة والنار في عرض الحائط ، وكما تمثل له في أثناء حفر الخندق ما يفتح الله لأصحابه من الممالك ، وكما تمثلت له الفتن وهو مشرف على أطم من آطام المدينة فقال كما في الصحيحين : " هل ترون ما أرى ؟ قالوا : لا ، قال : فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقوع القطر " وظهر هذا في فتنة قتل عثمان - رضي الله عنه - ومثله حديث الفتن من قبل المشرق ، وكشفه هذا حق ، وهو ما يسميه أهل الكتاب : نبوءات ، وقد ظهر منه شيء كثير كالشمس .

                          ( 4 ) أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخبر أصحابه بكل ما يطلعه الله عليه من ذلك ، بل بما كان يرى المصلحة في إخبارهم به موعظة وتحذيرا ، وكان يخص بعض أصحابه ببعضها كما روي في مناقب حذيفة - رضي الله عنه - وما كان كل من سمع منه شيئا منها يفهم مراده كله ، وإذا كانوا لم يفهموا تأويل بعض آيات القرآن في سنن الله العامة حق الفهم التفصيلي كما تقدم آنفا [ ص: 422 ] عن الزبير - رضي الله عنه - ، وإذا كان منهم من لم يفهم بعض آيات الأحكام الظاهرة كقوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ( 2 : 187 ) فلأن يخفى عليهم تأويل ما خص به بعض الأفراد ، وهو مما لم يؤمر بتبليغه للناس كافة - ; لأنه ليس من أصول الدين ولا من فروعه - أولى . وخفاء ذلك على من بعدهم أولى ، إلا من يقع تأويله في عهدهم كوصفه - صلى الله عليه وسلم - النساء المتهتكات في هذا العصر بالكاسيات العاريات إلخ .

                          ( 5 ) لا شك في أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء ، ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها ، وما دخل على بعض الأحاديث من المدرجات ، وهي ما يدرج في اللفظ المرفوع من كلام الرواة . فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه ، وربما وقع في فهمه الخطأ; لأن هذه أمور غيبية ، وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها ، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلعه الله تعالى على كل ما أطلعه عليه من هذه المغيبات بالتفصيل ، وكان يجتهد في بعضها ويقدر ويأخذ بالقرآن كما قال النووي وابن الجوزي في تجويزه - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ابن صياد اليهودي المعاصر له هو الدجال المنتظر ، وكذا تجويزه أن يظهر في زمنه وهو حي ، فهل من الغرابة أن يقع الخلط والتعارض فيما روي عنه بالمعنى بقدر فهم الرواة .

                          ( 6 ) أن العابثين بالإسلام ومحاولي إفساد المسلمين وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية قد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها ، وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها ، وراج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى ، ولم يعرف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعيها ، ولقد كان الأستاذ الإمام يقول : إنالإسلام الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن ، ولم يكن يثق إلا بأقل القليل مما روي في الصحاح من أحاديث الفتن .

                          ( 7 ) إن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم ، وما كل مسلم مؤمن صادق ، وما كانوا يفرقون في الأداء بين ما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من غيره وما بلغهم عنهم بمثل : سمعت وحدثني وأخبرني ، ومثل : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ، أو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما فعل المحدثون من بعد عند وضع مصطلح الحديث ، وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كان يروي بعضهم عن بعض ، وعن التابعين حتى عن كعب الأحبار وأمثاله ، والقاعدة عند أهل السنة أن جميع الصحابة عدول فلا يخل جهل اسم راو منهم بصحة السند ، وهي قاعدة أغلبية لا مطردة فقد كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - منافقون قال تعالى فيهم : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ( 9 : 101 ) مردوا عليه : أحكموه وصقلوه أو صقلوا فيه حتى لم يعد يظهر في سيماهم [ ص: 423 ] وفحوى كلامهم ، كالذين قال الله فيهم منهم : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ( 47 : 30 ) .

                          ولكن البلية في الرواية عن مثل كعب الأحبار ، وممن روى عنه أبو هريرة وابن عباس ، ومعظم التفسير المأثور مأخوذ عنه وعن تلاميذه ، ومنهم المدلسون كقتادة ، وكذا غيره من كبار المفسرين كابن جريج .

                          فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية ، أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق ، أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية ، أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية ، فهو مظنة لما ذكرنا في هذه التنبيهات ، وسبق لنا بيان أكثرها في الكلام على حديث طلوع الشمس من مغربها في تفسير ( 6 : 158 ) من أواخر سورة الأنعام ص 185 وما بعدها ج 8 ط الهيئة ، فمن صدق رواية مما ذكر ، ولم يجد فيها إشكالا فالأصل فيها الصدق ، ومن ارتاب في كل شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالا في متونها ، فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية لاحتمال كونها من دسائس الإسرائيليات ، أو خطأ الرواية بالمعنى ، أو غير ذلك مما أشرنا إليه ، وإذا لم يكن شيء منها ثابتا بالتواتر القطعي ، فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - المعلوم بالقطع ، ولا على غير ذلك من القطعيات ، ولعل الله تعالى يبارك لنا في العمر ، ويوفقنا لصرف معظمه في خدمة الكتاب والسنة ، فنضع لأحاديث الفتن وآيات الساعة مصنفا خاصا بها ، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو على كل شيء قدير .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية