الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 133 ] الباب الحادي عشر

                                                                                                                فيما

                                                                                                                ينقض من الأقضية

                                                                                                                وفي الكتاب : إذا قضى فيما اختلف فيه ، ثم تبين الحق في غير ما قضى به ، رجع عنه ، ولا ينقض حكم غيره في موضع الخلاف ، في التنبيهات : حمل أكثرهم الكلام على أن مذهبه في الكتاب الرجوع كيف كان ، من وهم أو انتقال رأي ، وقال عبد الملك : إنما يرجع في الوهم والغلط لا في تغير الاجتهاد ، قال : وهو أقرب للصواب ، إذ لو صح الأول ما استقر لقاض حكم [ . . . . ] في كل وقت فلا يثق أحد بحكمه ؛ ولأن الثاني اجتهاد مثل الأول ، بخلاف ما لو [ . . . . ] ! فهذا ينقضه هو ومن بعده ، لا يختلف في هذا إذا ثبت ذلك عليه ، وقد خالف الكتاب والسنة أولا ، وهو شاذ فينقضه هو ومن بعده . وكذلك إذا كان يلزم مذهبا معينا ويحكم بتقليده لا باجتهاده فحكم فغلط في مذهبه ، نقضه هو دون غيره ، وقيل : يحتمل أن معنى كلامه أنه إنما رجع فيما كان جورا بينا .

                                                                                                                قال صاحب النكت : إذا بان له أنه أخطأ فلينقض قضيته ، وإن أصاب قول قائل ، وقد فعله عمر بن عبد العزيز ، واختصره ابن حمديس إذا حكم بما اختلف الناس فيه فلا ينقضه ، قال اللخمي : إذا خالف نص القرآن أو السنة أو الإجماع ينقضه هو وغيره ، وإن أراد الانتقال عن اجتهاد فأربعة أقوال ، جوزه مطرف وعبد الملك ، وهو ظاهر المدونة ، ومنعه ابن عبد الحكم قضى بمال أو غيره ، وجوزه أشهب إن كان بمال بخلاف إثبات نكاح أو فسخه ، قال : وعلى هذا لا ينقضه إذا كان بإنفاذ عتق ، أو رده ، أو حد أو قتل أثبته أو أبطله ، وقيل : [ ص: 134 ] المتروكات ليس بحكم ، بخلاف الإثبات ، قال : والأول أحسن لما في الصحيحين : قال _ صلى الله عليه وسلم _ ( إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران ) فأثبت الخطأ مع الأجر ، والخطأ لا يقر عليه ، وهذا إذا تبين أنه جهل ، وأنه خارج عن الأصل الذي كان ظنه منه ، وإلا لم ينقض .

                                                                                                                فرع : مرتب

                                                                                                                قال اللخمي في الواضحة : إذا أشهد الحاكم على فسخ حكمه ، ويذكر أنه رجع عنه لأحسن منه ولا يحسن أمر فسخه له ، لا ينفسخ حتى يلخص ما يوجب فسخه إلا أن يقول : تبين لي أن الشهود زور ، وقال عبد الملك : يكفي إشهاده على الفسخ إذا كان مأمونا لا يتهم أنه فسخه جورا . ولو قال مع الفسخ : قضيت للآخر ، لم يجز قضاؤه ، ومضي الفسخ . لا يقضي حتى يستفرغ المقضي عليه الآجال والحجج . وفي الجواهر : قسم ابن القاسم وابن محرز حال القاضي أربعة أقسام : الأول : إن خالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع ، ينقضه هو وغيره ، الثاني : أن يقصد مذهبا فيصادف غيره سهوا ، ينقضه هو دون غيره ؛ لأن ظاهره الصحة لقول بعض العلماء به ، وغلطه لا يعرف إلا من قوله ، إلا أن تشهد بينة أنها علمت قصده إلى الحكم فوقع له غيره أيضا ، الثالث : أن يجتهد فيظهر له الصواب في غير ما حكم به من طريق الاجتهاد أيضا ، فعند ابن القاسم وغيره : أنه يرجع إلى ما ظهر له ، وقيل : لا يرجع لجواز تغير غيره الثاني أيضا فلا يقف عند غاية ، فهو كالمصلي يتغير اجتهاده بعد الصلاة في القبلة ، الرابع : أن يحكم بالظن والتنجيز من غير اجتهاد في الأدلة ، فينقضه هو وغيره ؛ لأنه فسق .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال اللخمي : ليس للخصم نقض الحكم بأن يأتي بحجة يقول كنت نسيتها ، [ ص: 135 ] أو يقول : استنطق خصمي عن كذا . ولا يمكن من ذلك ، عن القاضي ولا غيره ، وإلا لما انقطعت المنازعات ، فإن أحضر بينة لم يعلم بها فثلاثة أقوال : سمعه ابن القاسم ؛ لأنها حجة ظاهرة ، وينقض الحكم ، ومنع سحنون صونا للحكم عن استمرار المنازعة ، وقال محمد : إن كان هذا القاضي نقضه ، أو غيره فلا لاحتمال مستند آخر له في الحكم ، قال : والأول أحسن إن اتفق الخصمان أن هذه البينة لمن شهدت ، أو علم ذلك ، فإن قال للطالب : ما شهدت ، وأنكر الآخر ، حلف القائم : لم تكن شهدت وعمل بموجبه ؛ لأن الأصل عدم شهادتها ، وتجريحها وردها ، فإن نكل حلف الآخر ومضى الحكم ، وإن كان في الحكم ما يقتضي أنها لم تكن شهدت ، سمعت من غير يمين بأن يقول في حجاجه : دعوته ببينة فلم يقل بها ، فإن أحضر بينة غائبة ، وكان القاضي ذكر ذلك في حكمه ، وقفه على حقه فيما شهدت به ، ونقضه القاضي الأول وغيره ، وكذلك إن ثبت أن البينة كانت غائبة حين الحكم وإن لم يشترط غيبتها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال اللخمي : إن أراد الخصم تجريح البينة لينقض الحكم وأثبت جرحها ، فعن مالك في النقض قولان ، وأمضاه سحنون ، وكذلك الجواب في إثبات العداوة أو تهمة القرابة ، وينقض في إثبات كون أحدهما رقيقا عند مالك وأصحابه ، قال : ولو أمضى لكان وجها ، وهو أولى من الفاسق للخلاف في شهادة العبد دون الفاسق ، وينقض بإثبات كون أحدهما مولى عليه في كتاب ابن سحنون ، وهو أبعد من العبد ، وقد قال مالك وغيره : شهادته مقبولة ؛ لأنه حر مسلم عدل ، وتنقض بإثبات كونه نصرانيا .

                                                                                                                [ ص: 136 ] فرع

                                                                                                                قال : قال عبد الملك : إذا حد القاذف بعد الإعذار إليه ، ثم أثبت بأربعة عدول الزنى قبل القذف ، حد الزاني وسقطت عن القاذف الجرحة ، ولو كان حدا غير الزنى ، وقال به المقضي عليه بعد لم يقبل منه ؛ لأنه حق الله تعالى ، لو أقام بينة أن حاكما جلده مائة لم تسمع بينته ؛ لأنها لا توجب الآن على الشهود عليه حدا ، وكذلك لو شهد أن البينة المحكوم بها سرقت فلم تقطع ، أو شربت فلم تحد ، أو حاربت ولم يثبت مما يتعلق به إلا حق الله تعالى ، نقض الحكم قولا واحدا ، وإن كان قد أقيم عليه الحد لم ينقض على أحد القولين .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إذا كانت القضية على غائب ، ثم قدم بجرح البينة ، فقبل : ذلك له ، وقال عبد الملك : ليس ذلك في الفسق وغيره إلا في الكفر ، أو الرق أو مولى عليهم ، قال : والأحسن والغائب على حجته ، وقد اختلف قول مالك في الحاضر ، فالغائب أولى .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إذا حكم القاضي بشهادة بينة شهدت على شهادة غيرها ، فأنكر المنقول عنهم أن يكونوا أشهدوهم : اختلف هل يكون رجوعا منهم أو ينقض الحكم ، أو يكونون أحق شهادتهم أولى يكونون أولى أولا بعد رجوعها ، ولا ينقض الحكم ، فقال محمد : يحد - كانت الشبهة في زنا - حد القذف ؛ لأن الفروع شهدوا عليهم بالقذف ، فجعل الإنكار رجوعا ، وعن مالك : ينقض ، ورأي الأصل أحق بشهادته من الفرع ، وعن ابن القاسم : يمضي الحكم ، ولا غرم على الأصل ولا على الفرع ، ولو قدم قبل الحكم بشهادة فرأى ابن القاسم أن [ ص: 137 ] الأمر فيه بعد الحكم مشكل ، هل يرجع ؟ أو وهم الفرع فلم ينقض الحكم ، ولا أغرم الفرع ، فعلى قوله وقول مالك : لا يحد بشهادة الزنى الأصول ويعدوا راجعين ، وعلى قول محمد : يغرم المنقول عنه المال ، قال : وأرى أن يرد الحكم ؛ لأنه أولى بشهادته ، ولا يغرم الفرع لأن الأمر مشكل هل صدقا أم كذبا ، فلا يغرمان بالشك ، والأمر في المنقول عنهم في الزنا أبين ؛ لأن قول الأصل والفرع في معنى التكاذب ، وقول أربعة أقوى من قول اثنين اللذان هما الفرع .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : لا ينقض قضاء ولاة المياه أو والي الفسطاط أو أمير الصلاة ، أو والي الإسكندرية أو استقضى قاضيا إلا في الجور البين ، وفي التنبيهات : ولاة المياه الساكنون على المياه خلاف أهل الأمصار ، قال ابن يونس : ولاتهم ولاة المياه الحدود في القتل ، ولا يقام القتل بمصر كلها إلا بالفسطاط .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية