الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( لما آتيتكم من كتاب وحكمة ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ الجمهور " لما " بفتح اللام ، وقرأ حمزة بكسر اللام ، وقرأ سعيد بن جبير " لما " مشددة ، أما القراءة بالفتح فلها وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن " ما " اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله : ( لتؤمنن به ) ، والتقدير : للذي آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، وعلى هذا التقدير " ما " رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة " ما " وهو صلتها محذوف ، والتقدير : لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) [ الفرقان : 41 ] وعليه سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : إذا كانت " ما " موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز ، ألا ترى أنك لو قلت : الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ) ليس فيه راجع إلى الموصول ، قلنا : يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) [ يوسف : 90 ] ، ولم يقل : فإن الله لا يضيع أجره ، وقال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) [ الكهف : 30 ] ، ولم يقل : إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما فائدة اللام في قوله : ( لما ) ، قلنا : هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك : لزيد أفضل من عمرو ، ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه ؛ لأن قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم ، وهذه اللام المتلقية للقسم ، فهذا تقرير هذا الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن " ما " هاهنا هي المتضمنة لمعنى الشرط ، والتقدير : ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، فاللام في قوله : ( لتؤمنن به ) هي المتلقية للقسم ، أما اللام في " لما " هي لام تحذف تارة ، وتذكر أخرى ، ولا يتفاوت المعنى ، ونظيره قولك : والله لو أن فعلت ، فعلت ، فلفظة " أن " لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا هاهنا ، وعلى هذا التقدير كانت " ما " في موضع نصب بآتيتكم " وجاءكم " جزم بالعطف على " آتيتكم " ، و " لتؤمنن به " هو الجزاء ، وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول؛ لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر ، وأما الوجه في قراءة " لما " بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل : أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل " وما " على هذه القراءة تكون موصولة . وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول ، وأما قراءة " لما " بالتشديد ، فذكر صاحب " الكشاف " فيه وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق له ، وجب عليكم الإيمان به ونصرته . والثاني : أن أصل " لما " لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات ، وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت " لما " ، ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 104 ]

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرأ نافع " آتيناكم " بالنون على التفخيم ، والباقون بالتاء على التوحيد ، حجة نافع قوله : ( وآتينا داود زبورا ) [ النساء : 163 ] ( وآتيناه الحكم صبيا ) [ مريم : 12 ] ( وآتيناهما الكتاب المستبين ) [ الصافات : 117 ] ، ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع ، وهذا الموضع يليق به هذا المعنى ، وحجة الجمهور قوله : ( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ) [ الحديد : 9 ] ، و ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) [ الكهف : 1 ] ، وأيضا هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها ؛ لأنه تعالى قال قبل هذه الآية : ( وإذ أخذ الله ) ، وقال بعدها ( إصري ) ، وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ، ومن الجمع إلى الواحد ، قال تعالى : ( وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني ) [ الإسراء : 2 ] ، ولم يقل من دوننا كما قال ( وجعلناه ) والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر النبيين على سبيل المغايبة ، ثم قال : ( آتيتكم ) وهو مخاطبة إضمار ، والتقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، والإضمار باب واسع في القرآن ، ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضمارا آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين ، فقال : تقدير الآية : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة ، قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه ؛ لأن لام القسم إنما يقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصارا ، ثم قال تعالى بعده : ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ) ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم ( لتؤمنن به ولتنصرنه ) ، وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكلف تلك التعسفات ، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار ، فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظما بينا جليا أولى من تلك التكلفات .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : في قوله : ( لما آتيتكم من كتاب ) إشكال ، وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم ، فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب ، وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم ، فالإشكال أظهر ، والجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن جميع الأنبياء - عليهم السلام - أوتوا الكتاب ، بمعنى كونه مهتديا به داعيا إلى العمل به ، وإن لم ينزل عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن أشرف الأنبياء - عليهم السلام - هم الذين أوتوا الكتاب ، فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : كلمة " من " في قوله ( من كتاب ) دخلت تبيينا لما كقولك : ما عندي من الورق دانقان .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية