الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إنك أنت العزيز الحكيم ) ، العزيز : الغالب أو المنيع الذي لا يرام ، قاله المفضل بن سلمة ، أو الذي لا يعجزه شيء ; قاله ابن كيسان ، أو الذي لا مثل له ; قاله ابن عباس ، أو المنتقم ; قاله الكلبي ، أو القوي ، ومنه : فعززنا بثالث ، أو المعز ومنه : ( وتعز من تشاء ) . الحكيم : قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله : ( إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) . وأنت : يجوز فيها ما جاز في ( أنت السميع العليم ) قبل من الأعاريب . وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما ; لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة ، وهي الغلبة أو القوة ، أو عدم النظير ، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل ، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته . وتقدمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات والحكيم من صفات الأفعال ، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها . وفي المنتخب : يتلو عليهم آياتك : هي القرآن . وقيل : الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته . ومعنى التلاوة : تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها ، وحكمة التلاوة : بقاء لفظها على الألسنة ، فيبقى مصونا عن التحريف والتصحيف ، وكون نظمها ولفظها معجزا ، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام . وقال القفال ، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة ، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، وقيل الحكمة المتشابهات . وقيل : الكتاب أحكام الشرائع ، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها ، وقيل : كلها صفات للقرآن ، هو [ ص: 394 ] آيات ، وهو كتاب وهو حكمة . انتهى ما لخص من المنتخب .

( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، من آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فأنزل الله هذه الآية . ومن : اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهو استفهام معناه : الإنكار ، ولذلك دخلت إلا بعده . والمعنى : لا أحد يرغب ، فمعناه النفي العام . ومن سفه : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء ، والرفع أجود على البدل ; لأنه استثناء من غير موجب ، ومن في " من سفه " موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، وانتصاب " نفسه " على أنه تمييز ، على قول بعض الكوفيين ، وهو الفراء ، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم ، أو مفعول به ، إما لكون سفه يتعدى بنفسه كـ " سفه " المضعف ، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدى ، أي جهل ، وهو قول الزجاج وابن جني ، أو أهلك ، وهو قول أبي عبيدة ، أو على إسقاط حرف الجر ، وهو قول بعض البصريين ، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه ، حكاه مكي . أما التمييز فلا يجيزه البصريون ; لأنه معرفة ، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة ، وأما كونه مشبها بالمفعول ، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة ، ولا يجوز في الفعل ، تقول : زيد حسن الوجه ، ولا يجوز حسن الوجه ، ولا يحسن الوجه . وأما إسقاط حرف الجر ، وأصله من سفه في نفسه ، فلا ينقاس ، وأما كونه توكيدا وحذف مؤكدة ففيه خلاف . وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني : أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد ، وأما التضمين فلا ينقاس ، وأما نصبه على أن يكون مفعولا به ، ويكون الفعل يتعدى بنفسه ، فهو الذي نختاره ; لأن ثعلبا والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى ، ك سفه بفتح الفاء وشدها . وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة . قال الزمخشري : سفه نفسه : امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه الخفة ، ومنه زمام سفيه . وقيل : انتصاب النفس على التمييز نحو : غبن رأيه ، وألم رأسه ، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :


ولا بفزارة الشعر الرقابا أجب الظهر ليس له سنام



وقيل : معناه سفه في نفسه فحذف الجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني ، والوجه هو الأول ، وكفى شاهدا له بما جاء في الحديث : " الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس " . انتهى كلامه . فأجاز نصبه على المفعول به ، إلا أن قوله : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :


ولا بفزارة الشعر الرقابا     أجب الظهر ليس له سنام



ليس بصحيح ; لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة . والشعر جميع أشعر ، وكذلك " أجب الظهر " هو أيضا من باب الصفة المشبهة ، وأجب أفعل اسم وليس بفعل . وقبل النصف الأول قوله :


فما قومي بثعلبة بن سعدى



وقبل الآخر قوله :


ونأخذ بعده بذناب عيش



فليس نحوه ; لأن نفسه انتصب بعد فعل ، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم ، وهما من باب الصفة المشبهة . ومعنى الآية : أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم ، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف ، إلا من أذل نفسه وامتهنها . وقال ابن عباس : معنى سفه نفسه : خسر نفسه . وقال أبو روق : عجز رأيه عن نفسه . وقال يمان : حمق رأيه . وقال الكلبي : قتل نفسه . وقال ابن بحر : جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل . وحكي عن بعضهم أن معناه : سفه حق نفسه ، فأما سفه بضم الفاء فمعناه : صار سفيها ، [ ص: 395 ] مثل فقه إذا صار فقيها ، قال :


فلا علم إذا جهل العليم     ولا رشد إذا سفه الحليم

( ولقد اصطفيناه في الدنيا ) : أي جعلناه صافيا من الأدناس ، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها ، وبناء البيت ، والإمامة ، واتخاذ مقامه مصلى ، وتطهير البيت ، والنجاة من نار نمروذ ، والنظر في النجوم ، وأذانه بالحج ، وإراءته مناسكه ، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه ، من خصائصه ووجوه اصطفائه . ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) : ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين ، بأن كان في الدنيا من صفوته ، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير ، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته . وهاتان الجملتان مؤكدتان ، أما الأولى فباللام ، وأما الثانية فبإن وباللام . ولما كان إخبارا عن حالة مغيبة في الآخرة ، احتاجت إلى مزيد تأكيد ، بخلاف حال الدنيا ، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلا بعد جيل . وأما كونه في الآخرة من الصالحين ، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى ، فأخبر الله به مبالغا في التوكيد ، وفي الآخرة : متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي وإنه لصالح في الآخرة . وقال بعضهم : هو على إضمار ، " أعني " فهو للتبيين ، كلك بعد سقيا ، وإنما لم يتعلق بالصالحين ; لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام ، ولا يتقدم معمول الوصف إذ ذاك . وكان بعض شيوخنا يجوز ذلك إذا كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا ، قال : لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما . وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة ، بل معرفة ، كهي في الرجل ، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك . وقيل : في الآخرة ، أي في عمل الآخرة ، فيكون على حذف مضاف ، وقيل : الآخرة هنا البرزخ ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا . وقيل : الآخرة يوم القيامة ، وهو الأظهر . قال ابن عباس : لمن الصالحين ، أي الأنبياء . وقيل : من الذين يستوجبون صالح الجزاء ، قال معناه الحسن . وقيل : الواردين موارد قدسه ، والحالين مواطن أنسه . وقال الحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير : ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وفي الآخرة ، وإنه لمن الصالحين . وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية