الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أفمن أسس بنيانه أي مبنيه فهو مصدر كالغفران واستعمل بمعنى المفعول وعن أبي علي أن البنيان جمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه اسم جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء . والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوله، ويستعمل بمعنى الإحكام وبه فسره بعضهم هنا، واختار آخرون التفسير الأول لتعدية بعلى في قوله سبحانه: على تقوى من الله ورضوان فإن المتبادر تعلقه به وجوز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازا وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف أي طرفه ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفى المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثنى على شفوان والجرف بضمتين البئر التي لم تطو وقيل: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه، وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة جرف بالتخفيف وهو لغة فيه هار أي متصدع مشرف على السقوط وقيل: ساقط وهو نعت لجرف وأصله هاور أو هاير فهو مقلوب ووزنه فالع وقيل: إنه حذفت عينه اعتباطا فوزنه فال والإعراب على رائه كباب وقيل: إنه لا قلب فيه ولا حذف وأصله هور أو هير على وزن فعل بكسر العين ككتف فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق، وفيه استعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار في قلة الثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة وقوله تعالى: فانهار به في نار جهنم ترشيح وباؤه إما للتعدية أو للمصاحبة ووضع في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة، وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم المصير إليها لا محالة، والاستعارة فيما تقدم مكنية حيث شبهت فيه التقوى بقواعد البناء تشبيها مضمرا في النفس ودل عليه ما هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان واختار غير واحد أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة هي التقوى وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار، وإنما اختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف أهل مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصاد وتوصيف أهل مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأن المقتضى بزعم البعض لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار وأمر الاستعارة على هذا التوجيه على طرز ما تقدم في التوجيه الأول وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل لحال من أخلص لله تعالى وعمل الأعمال الصالحة [ ص: 23 ] بحال من بنى بناء محكما يستوطنه ويتحصن به وأن يكون البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيحا أو تبعية وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد اعتبار إجرائه في مقابله وفاعل (انهار) إما ضمير البنيان وضمير (به) للمؤسس وإما للشفا وضمير - به - للبنيان وإليه يميل ظاهر التفسير المار آنفا

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع وقع في النار فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية: والله ما تناهى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة فرئي منه الدخان

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال فيها: مضى حين خسف به إلى النار . وعن سفيان بن عيينة يقال: إنه بقعة من نار جهنم . وأنت تعلم أني والحمد لله تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه، وأنه جل جلاله فعال لما يريد لكني لا أؤمن بمثل هذه الظواهر ما لم يرد فيا خبر صحيح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . وقرأ نافع وابن عمر (أسس) بالبناء للمفعول في الموضعين وقرئ (أساس بنيانه وأس بنيانه) على الإضافة ونسب ذلك إلى علي بن نصر وأسس بفتحات ونسبت إلى عاصم وإساس بالكسر قيل: وثلاثتها جمع أس وفيه نظر ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس أساس مثل عس وعساس وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس آساس مثل سبب وأسباب انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز في في أسس أن يكون مصدرا وقرأ عيسى بن عمرو (وتقوى) بالتنوين وخرج ذلك ابن جني على أن الألف للإلحاق كما في أرطى ألحق بجعفر لا للتأنيث كألف تترى في رأى وإلا لم يجز تنوينه، وقرأ ابن مسعود (فانهار به قواعده في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين 108 أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها أي يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشادا موجبا لا محالة

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية