الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف فقال نعم لا بأس بذلك قال مالك الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة أو يدعها فإن كان مسجدا لا يجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه فإني لا أرى بأسا بالاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال وأنتم عاكفون في المساجد فعم الله المساجد كلها ولم يخص شيئا منها قال مالك فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا يجمع فيها الجمعة إذا كان لا يجب عليه أن يخرج منه إلى المسجد الذي تجمع فيه الجمعة قال مالك ولا يبيت المعتكف إلا في المسجد الذي اعتكف فيه إلا أن يكون خباؤه في رحبة من رحاب المسجد ولم أسمع أن المعتكف يضرب بناء يبيت فيه إلا في المسجد أو في رحبة من رحاب المسجد ومما يدل على أنه لا يبيت إلا في المسجد قول عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ولا يعتكف فوق ظهر المسجد ولا في المنار يعني الصومعة وقال مالك يدخل المعتكف المكان الذي يريد أن يعتكف فيه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها حتى يستقبل باعتكافه أول الليلة التي يريد أن يعتكف فيها والمعتكف مشتغل باعتكافه لا يعرض لغيره مما يشتغل به من التجارات أو غيرها ولا بأس بأن يأمر المعتكف بضيعته ومصلحة أهله وأن يأمر ببيع ماله أو بشيء لا يشغله في نفسه فلا بأس بذلك إذا كان خفيفا أن يأمر بذلك من يكفيه إياه قال مالك لم أسمع أحدا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطا وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال مثل الصلاة والصيام والحج وما أشبه ذلك من الأعمال ما كان من ذلك فريضة أو نافلة فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السنة وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون لا من شرط يشترطه ولا يبتدعه وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المسلمون سنة الاعتكاف قال مالك والاعتكاف والجوار سواء والاعتكاف للقروي والبدوي سواء

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          695 690 - ( مالك أنه سأل ابن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف ؟ فقال : نعم ، لا بأس بذلك ) ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ، وقال جماعة : إن دخل تحته بطل

                                                                                                          ( مالك : الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه ) بالتشديد يصلى فيه الجمعة ، ( ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة ) وجوبا ، ويبطل اعتكافه على المشهور ، ( أو يدعها ) فيحرم عليه ، وفي بطلان اعتكافه قولان : ( فإن كان ) المسجد الذي اعتكف فيه ( مسجدا لا يجمع فيه الجمعة ) وهو مباح لعموم الناس ( ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه ) لانقضاء مدة اعتكافه قبل مجيء الجمعة [ ص: 306 ] ( فإني لا أرى بأسا بالاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال ) ولا تباشروهن ( وأنتم عاكفون في المساجد ، فعم الله المساجد كلها ولم يخص شيئا منها ) ، وهذا تصريح من الإمام بالقول بالعموم والتعلق به ، ودلت الآية على أن شرط الاعتكاف المسجد لأنه لو صح في غيره لم يختص تحريم المباشرة به لأن الجماع مناف للاعتكاف إجماعا ، فعلم من ذكر المساجد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها ، وحكى ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة الجماع .

                                                                                                          وروى ابن جرير وغيره عن قتادة في سبب نزولها : كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء ( قال مالك : فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا يجمع فيها الجمعة إذا كان لا يجب عليه أن يخرج منه إلى المسجد الذي يجمع فيه الجمعة ) لانقضاء ما نواه من الاعتكاف قبل مجيئها ، وقد اتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة فأجازه في كل مكان ، وأجاز الحنفية للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه .

                                                                                                          وفي وجه للشافعية وقول للمالكية : يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل .

                                                                                                          وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات وخصه أبو يوسف بالواجب ، وأما النفل ففي كل مسجد .

                                                                                                          وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحبه له الشافعي في الجامع ، وشرطه مالك لانقطاع الاعتكاف عندهما بالجمعة ، وخصه طائفة كالزهري بالجامع مطلقا ، وحذيفة بن اليماني بالمساجد الثلاثة ، وعطاء بمسجد مكة والمدينة ، وابن المسيب بمسجد المدينة .

                                                                                                          ( قال مالك : ولا يبيت المعتكف إلا في المسجد الذي اعتكف فيه إلا أن يكون خباؤه ) بكسر الخاء المعجمة وموحدة خيمته ( في رحبة من رحاب المسجد ) وهي صحنه ، وأما خارجه فلا يجوز الاعتكاف فيه قاله الباجي .

                                                                                                          ( ولم أسمع أن المعتكف يضرب بناء يبيت فيه إلا في المسجد أو في رحبة من رحاب المسجد ، ومما يدل على أنه لا يبيت إلا [ ص: 307 ] في المسجد قول عائشة ) الذي رواه أولا : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ) فحصرها في الحاجة دال على أن بياته كان في المسجد ، ( ولا يعتكف فوق ظهر المسجد ) لأنه ليس منه ، ولذا لا تصلى فيه الجمعة فلا يعتكف فيه ، ( ولا في المنار ) العلم الذي يهتدى به أطلقه على المنارة التي يؤذن عليها بجامع الاهتداء فلذا قال ( يعني الصومعة ) لأنها موضع متخذ لغير الصلاة كبيت الحصر والقناديل ولها اسم تختص به عن المسجد .

                                                                                                          ( وقال مالك : يدخل المعتكف المكان الذي يريد أن يعتكف فيه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها حتى ) أي لأجل أن ( يستقبل باعتكافه أول الليلة التي يريد أن يعتكف فيها ) استحبابا ، فإن دخل قبل الفجر في وقت يجوز له نية الصوم أجزأه لأن الليلة تبع ، إذ الاعتكاف إنما يكون بصوم وليس الليل بزمانه ، وبهذا قال باقي الأئمة وطائفة .

                                                                                                          وقال الأوزاعي والليث والثوري : يدخل بعد صلاة الصبح لظاهر حديث الصحيحين عن عائشة : " كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله " ، وأجاب الجمهور بأنه دخل من أول الليل ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لاعتكافه بعد صلاة الصبح .

                                                                                                          ( والمعتكف مشتغل باعتكافه لا يعرض لغيره مما يشتغل به من التجارات ) ويجوز ما خف من بيع وشراء ( أو غيرها ) كقيامه لرجل يهنيه أو يعزيه أو شهود عقد نكاح يقوم له من مكانه واشتغال بعلم وكتابة .

                                                                                                          ( ولا بأس بأن يأمر المعتكف بضيعته ومصلحة أهله وأن يأمر ببيع ماله أو ) يأمر ( بشيء لا يشغله في نفسه فلا بأس بذلك إذا كان خفيفا أن يأمر بذلك من يكفيه إياه ) إذ المدار على عدم اشتغاله عما هو فيه والأمر بما خف لا يشغله .

                                                                                                          ( قال مالك : لم أسمع أحدا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطا ) يخرجه عن سنته كمن شرط أنه متى أراد الخروج منه كان له ذلك فإنه لا [ ص: 308 ] ينفعه .

                                                                                                          ( وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال ) المتصلة ( مثل : الصلاة والصيام والحج ، وما أشبه ذلك من الأعمال ) وهي العمرة والطواف والائتمام ، ( ما كان من ذلك فريضة أو نافلة ) أي لا فرق بينهما .

                                                                                                          ( فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السنة ) فيجب عليه إتمامه ولا ينفعه شرط الخروج .

                                                                                                          ( وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون لا من شرط يشترطه ) أي لسببه أو لأجله قبل دخوله ( ولا يبتدعه ) يحدثه بعد الدخول ، ( وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المسلمون سنة الاعتكاف ) عنه فلم ينقل أحد الشرط في الاعتكاف ، وقد أجمعوا على أن الصيام والصلاة لا شرط فيهما ، وفي الحج خلاف وكذا الاعتكاف ، فقال جماعة : لا يجوز ولا ينفعه شرطه .

                                                                                                          وقال الشافعي والثوري وإسحاق : إن شرط في ابتداء اعتكافه ، إن عرض له أمر خرج جاز ، وهو رواية عن أحمد ، وعن إسحاق أيضا يجوز في التطوع لا الواجب ، وفي المنتقى : من نذر اعتكافا ، وشرط الخروج منه متى أراد ، لم يلزمه لأنه نذر اعتكافا غير شرعي ؛ فإن دخل لزمه وبطل الشرط .

                                                                                                          وقال الشافعي : يصح اشتراط الخروج لعيادة وشهود جنازة وغيرهما من حوائجه ، وهذا مبني على أصلين : أحدهما : أن القربة إذا دخل فيها لزمت بالدخول ، والثاني : أنه لا يصح اعتكاف أقل من يوم لأن شرطه الصوم وأجمعوا على أنه لا يتبعض ، وقال بعض الحنفية : يصح اعتكاف ساعة .

                                                                                                          ( قال مالك : والاعتكاف والجوار ) بكسر الجيم ( سواء ) لما في بعض طرق حديث عائشة : " كان يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض " ، قال الباجي : يريد مالك الجوار الذي بمعنى الاعتكاف في التتابع ، وأما الجوار الذي يفعله أهل مكة فإنما هو لزوم المسجد بالنهار والانقلاب بالليل وذلك لا يمنع شيئا ، وله الخروج في حوائجه ووطء أهله متى شاء ، وغير ذلك .

                                                                                                          ( والاعتكاف للقروي والبدوي سواء ) في الأحكام .




                                                                                                          الخدمات العلمية