الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الفتنة بالموصل وإخراج عاملهم

كان الخليفة المعتمد على الله قد استعمل على الموصل أساتكين ، وهو من أكابر قواد الأتراك ، فسير إليه ابنه أذكوتكين في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ومائتين ; فلما كان يوم النيروز من هذه السنة ، وهو الثالث عشر من نيسان ، غيره المعتضد بالله ، ودعا أذكوتكين ووجوه أهل الموصل إلى قبة في الميدان ، وأحضر أنواع الملاهي ، وأكثر الخمر ، وشرب ظاهرا ، وتجاهر أصحابه بالفسوق ، وفعل المنكرات ، وأساء السيرة في الناس .

وكان تلك السنة برد شديد أهلك الأشجار ، والثمار ، والحنطة ، والشعير ، وطالب الناس بالخراج على الغلات التي هلكت ، فاشتد ذلك عليهم ، وكان لا يسمع بفرس جيد عند أحد إلا أخذه ، وأهل الموصل صابرون ، إلى أن وثب رجل من أصحابه على امرأة فأخذها في الطريق ، فامتنعت ، واستغاثت ، فقام رجل اسمه إدريس الحميري ، وهو من أهل القرآن والصلاح ، فخلصها من يده ، فعاد الجندي إلى أذكوتكين فشكا من الرجل ، فأحضره وضربه ضربا شديدا من غير أن يكشف الأمر ، فاجتمع وجوه أهل الموصل إلى الجامع وقالوا : قد صبرنا على أخذ الأموال ، وشتم الأعراض ، وإبطال السنن والعسف ، وقد أفضى الأمر إلى أخذ الحريم ، فأجمع رأيهم على إخراجه ، والشكوى منه إلى الخليفة .

وبلغه الخبر ، فركب إليهم في جنده ، وأخذ معه النفاطين ، فخرجوا إليه وقاتلوه قتالا شديدا ، حتى أخرجوه عن الموصل ، ونهبوا داره ، وأصابه حجر فأثخنه ، ومضى يومه إلى بلده ، وسار منها إلى سامرا .

[ ص: 317 ] واجتمع الناس إلى يحيى بن سليمان ، وقلدوه أمرهم ، ففعل ، فبقي كذلك إلى أن انقضت سنة ستين ، فلما دخلت سنة إحدى وستين [ ومائتين ] كتب أستاتكين إلى الهيثم بن المعمر التغلبي ، ثم العدوي ، في أن يتقلد الموصل ، وأرسل إليه الخلع واللواء ، وكان بديار ربيعة ، فجمع جموعا كثيرة ، وسار إلى الموصل ، ونزل بالجانب الشرقي ، وبينه وبين البلد دجلة ، فقاتلوه ، فعبر إلى الجانب الغربي وزحف إلى باب البلد ، فخرج إليه يحيى بن سليمان في أهل الموصل ، فقاتلوه فقتل بينهم قتلى كثيرة ، وكثرت الجراحات وعاد الهيثم عنهم .

فاستعمل أساتكين على الموصل إسحاق بن أيوب التغلبي في جمع يبلغون عشرين ألفا ، منهم حمدان بن حمدون التغلبي ، وغيره ، فنزل عند الدير الأعلى ، فقاتله أهل الموصل ومنعوه ، فبقوا كذلك مدة ، فمرض يحيى بن سليمان الأمير ، فطمع إسحاق في البلد ، ووصل إلى سوق الأربعاء ، وأحرق سوق الحشيش ، فخرج بعض العدول ، اسمه زياد بن عبد الواحد ، وعلق في عنقه مصحفا ، واستغاث بالمسلمين فأجابوه ، وعادوا إلى الحرب ، وحملوا على إسحاق وأصحابه ، وأخرجوهم من المدينة .

وبلغ يحيى بن سليمان الخبر فأمر فحمل في محفة ، وجعل أمام الصف ، فلما رآه أهل الموصل قويت نفوسهم ، واشتد قتالهم ، ولم يزل الأمر كذلك ، وإسحاق يراسل أهل الموصل ، ( ويعدهم الأمان ) ، وحسن السيرة ، فأجابوه إلى أن يدخل البلد ، ويقيم بالربض الأعلى ، فدخل وأقام سبعة أيام .

ثم وقع بين بعض أصحابه ، وبين قوم من أهل الموصل شر ، فرجعوا إلى الحرب ، وأخرجوه عنها ، واستقر يحيى بن سليمان بالموصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية