الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( من قبل أن تنزل التوراة ) فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه ، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعا كثيرة ، روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعا من أنواع الطعام ، أو سلط عليهم شيئا لهلاك أو مضرة ، دليله قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجودا من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ، فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وإما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم ، وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه ، فنازعوه في ذلك ، فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول ، وعلى كلا الوجهين ، فالتفسير ظاهر ، ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية ، وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله ، ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا : لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه ، لأنا نثبته بالقياس ، ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي ، وإنما وقع في أن هذا الحكم ، هل كان موجودا في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا ؟ ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص ، فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، بنص التوراة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فمن افترى على الله الكذب ) الافتراء اختلاق الكذب ، والفرية الكذب والقذف ، وأصله من فري الأديم ، وهو قطعه ، فقيل للكذب افتراء ، لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( من بعد ذلك ) أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ، ولم يكن محرما قبله ( فأولئك هم الظالمون ) المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قل صدق الله ) ويحتمل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : ( قل صدق ) في أن ذلك النوع من الطعام صار حراما على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالا لهم فصح القول بالنسخ ، وبطلت شبهة اليهود .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : ( صدق الله ) في قوله : إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه ، فثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها ، فقد أفتى بملة إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ( صدق الله ) في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ) أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم ، وسواء قال : ملة إبراهيم حنيفا ، أو قال : ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 124 ] ثم قال : ( وما كان من المشركين ) أي لم يدع مع الله إلها آخر ، ولا عبد سواه ، كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر ، أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزيرا ابن الله ، وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله ، والغرض منه بيان أن محمدا صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام ، في الفروع والأصول .

                                                                                                                                                                                                                                            أما في الفروع ، فلما ثبت أن ما حكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضا ، وأما في الأصول فلأن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى ، وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية